Download
1 / 124
1.24k likes | 1.5k Views
الدرس الثامن عشر. الدعوة في عهد الصديق -رضي الله عنه - 11-13 هـ.
E N D
الدعوة في عهد الصديق -رضي الله عنه- 11-13هـ • مضى معنا في سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه نعى نفسه في غير مرة للمسلمين، وفي مرضه الذي استمر أربعة عشر يومًا، نبأ المسلمين بقرب أجله -صلى الله عليه وآله وسلم- فأصاب الجميع دهشة عظيمة وهذا أمر جلل وقع بأصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى تزلزل منه عمر -رضي الله تعالى عنه- على شدته وقوته، تزلزل لما بلغه خبر وفاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.
إلا أن الصديق -رضي الله عنه- كان أثبت الصحابة -رضي الله عنهم- مع أنه كان أشدهم حبًّا لرسول الله، وكان أقربهم منه منزلة -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- كان أثبت الصحابة حين بلغه خبر وفاة النبي -صلى الله عليه وآله- دخل بيت عائشة حين وصله الخبر والنبي -عليه الصلاة والسلام- مسجى فكشف عنه وجهه وقبله، ثم قال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أطيبك حيًّا وميتًا". هكذا رأينا كلمات الصديق -رضي الله تعالى عنه- على هذا النحو من الثبات، وقال: "أما الموتة الأولى التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدًا".
خرج إلى الناس فأفاقوا على صوته -رضي الله تعالى عنه- وهو يقول: "أيها الناس من كان يعبد محمدًا؛ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قول الله -تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144)" هكذا كان ثباته -رضي الله تعالى عنه- ومعلوم أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- قبض وأنه لم يثبت أنه أوصى لأحد من بعده بالخلافة، وإنما ترك المسلمين لإيمانهم ولما رباهم عليه من الأخذ بالشورى. ولو كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ترك نصًّا بالخلافة لأحد كما ادعاه الشيعة الرافضة لسارع جميع الصحابة إلى بيعته.
وكان من أمر السقيفة التي اجتمع فيها المهاجرون واجتمع فيها الأنصار، كان من أمر ذلك: المؤتمر أن اجتمع زعماء المسلمين من الأنصار، ومن المهاجرين، ثم جرى في هذه السقيفة أول بيعة في المسلمين، تمت البيعة لأبي بكر بإجماع الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وكانت عن رضًا واختيار لم يختلف عليه المهاجرون والأنصار، وأما ما كان من حديث السقيفة، يوم وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فكان ذلك لحرص الأنصار على تولية من يذود عن المسلمين، خاصة أن المدينة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- سوف تصبح هدفًا للأعداء من كل اتجاه؛ فهناك قبائل أسلمت عن خوف، وهناك أناس أظهروا الردة في أواخر حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يحضر علي بن أبي طالب اجتماع السقيفة لاشتغاله، وأهل بيته في جهاز الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهنا أثار دعاة الفتن الشبهات حول موقف علي -رضي الله عنه- من بيعة الصديق؛ فقد خرج -رضي الله عنه- عندما جاءه أن أبا بكر جلس للبيعة في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلًا كراهية أن يبطأ عنها، حتى بايعه ثم جلس إليه، وبعث إلى ثوبه فتجلله ولزم مجلسه، وهذا هو الأقرب لخلق علي -رضي الله عنه- ولجلالة قدره، ولمنزلة الصديق في نفسه، وهذا فيه رد بليغ على أولئك الذين أثاروا الغبار حول موقف علي -رضي الله تعالى عنه- وهذه المصادر الشيعية التي وضعت ذلك الكذب المصنوع التي تحاول فيه النيل من إجماع الصحابة على خلافة الصديق -رضي الله تعالى عنه.
ولم حاول أبو سفيان استثارة علي نهاه، فقال: "ويحك أبا سفيان! إن المسلمين نصحة بعضهم لبعض وإن نأت دارهم وأرحامهم، وإن المنافقين غششة بعضهم لبعض وإن قربت ديارهم وأرحامهم؛ ولولا أنا رأينا أبا بكر أهلًا ما خليناه وإياها" هذا يعني به الخلافة. • وعلي -رضي الله عنه- لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عن الصلاة خلفه في صلاة من الصلوات، وخرج معه إلى كل موقع وغزا بأمره كل ميدان، لم يتخلف عنه بل خرج شاهرًا سيفه يريد قتال أهل الردة تبعًا لأبي بكر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ولما تلقى الصديق البيعة في يوم السقيفة قام فخطب مبينًا سياسته الراشدة المقتبسة من سياسة النبوة فقال: "أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني؛ الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه -إن شاء الله- والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله- لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله". رحم الله أبا بكر رحمة واسعة، ورضي الله عن خليفة رسول الله، وأجزل له المثوبة عن الإسلام وأهله.
كان أول شيء قصد إليه الصديق هو تنفيذ وصية رسول الله -صلى الله عليه وآله- "أنفذوا جيش أسامة" وكان -عليه الصلاة والسلام- قد ضرب قبل وفاته بعثًا على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر -رضي الله عنه- وأمّر عليهم أسامة، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض النبي -عليه الصلاة والسلام- فوقف أسامة بالناس، حتى يرى كيف تسير الأمور بعد وفاة رسول الله، وما أن تم الأمر لأبي بكر حتى أصدر أوامره لينفذ بعث أسامة، ولما كانت وجهة الجيش بعيدة عن المدينة فكان مقصوده بلاد قضاعة على أطراف الجزيرة العربية من ناحية الشمال الغربي، حيث كان رسول الله يريد أن يؤدب تلك القبائل الموالية للروم، والتي بدأت تهدد الدولة الإسلامية، فضلًا عن رد اعتبار المسلمين هناك في مؤتة.
ولعل الحكمة في اختياره -صلى الله عليه وآله- أسامة قائدًا على الجيش هو أن تأخذه الحمية الإسلامية لاستشهاد المسلمين عامة ولأبيه خاصة في غزوة مؤتة، فيثأر لهم من هؤلاء المناوئين للإسلام، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يقصد أيضًا إلى شن الغارة لتكون طليعة لفتح الشام؛ إذ أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يقلل اللطف فيهم، وشاء الله أن يلتحق الرسول -صلى الله عليه وآله- بالرفيق الأعلى وأسامة لا يزال معسكرًا بالجرف، وقف الصديق وقفة عظيمة حين خرج أسامة بجيشه، وشيعه أبو بكر وهو ماش وأسامة راكب، ولما خاطبه أسامة في ذلك قال: والله لا تنزل ولا أركب ما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله.
وكان تسيير هذا البعث سياسة حكيمة من الصديق وطدت أمر الإسلام، وأرهبت أهل الردة الذين قالوا: لو لم يكن أبو بكر على بصيرة من أمره وقوة من جيشه وكثرة من جنده؛ لما بعث هذا البعث في مثل هذا الظرف، وقد حاول بعث الصحابة ومنهم عمر أن يستأنوا بإرسال ذلك الجيش، فأشاروا على الصديق بعدم بعثه إلا أنه -رضي الله تعالى عنه- ما كان ليحل عقدة أبرمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حولنا، أي: من حول المدينة ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين". وتأمل هذه القوة في الحق ترى الصديق قد تحول من ذلك الشخص الذي يرى فيه من الهدوء والسكينة والدعة واللين، إلى هذا الأسد الهصور الذي لا يبالي في الحق.
أثرت هذه الغارة على هرقل ومتنصرة العرب؛ فقد بلغ الخبر هرقل، وكان بحمص فاستشار بطارقته فأشار عليه أخوه أن يبعث رابطة أن تكون بالبلقاء، لم تزل هذه الرابطة مقيمة في البلقاء حتى قدمت جحوف المسلمين لفتح الشام، وبذلك أثرت هذه الحملة في الروم بأن أوقعت الارتباك في خططهم مع من تنصر من العرب.
وأما أعظم أعمال الصديق في ولايته المباركة: فهي حروب الردة؛ فقد ارتد عرب شبه الجزيرة بعد وفاة رسول الله، إما ردة عامة أو خاصة من كل فرقة، وظهر النفاق واشرأبت اليهود وتطلعت النصارى، كل أولئك أن ينال من الإسلام نيلًا، وقالت الأعراب آمنا، والله -تبارك وتعالى- قال لهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}وكان من الأعراب من ينتظر أن يكون الغلب للمشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا مذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء ومنهم من بلغ به العناد في الكفر أن جاءوا للنبي -عليه الصلاة والسلام- يظهرون أنهم يطلبون الهداية؛ فأرسل إليهم من يحفظهم القرآن ويعلمهم الإسلام؛ فغدروا بهم وقتلوهم كما حصل في بئر معونة وفي يوم الرجيع؛ فقال تعالى واصفًا حاله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}التوبة: 97) وكان هذا النوع من النفاق الأعرابي متغلغلًا في الصحراء وحول المدينة ذاتها. قال سبحانه {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (التوبة: 101).
قسم الله تعالى الأعراب إلى قسمين: منافق جلي النفاق يحسب الزكاة والصدقات مغرمًا، ومؤمن بالله واليوم الآخر يتخذ ما ينفق قربات عند الله وذكر لله -تبارك وتعالى- وهكذا نجمت الردة في عصره -رضي الله تعالى عنه- وإن كانت بوادرها قد ظهرت في أيام الرسول؛ إذ تنبأ الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في اليمامة وغيرهما إلا أنهم لم يجرؤوا على إعلان ذلك ولو فعلوه لقاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آنذاك كما فعل مع طليحة الأسدي الذي ارتد عن الإسلام وادعى النبوة في حياته -عليه الصلاة والسلام- فوجه إليه الرسول ضرار بن الأزور، ولما ضربه نبا عنه السيف، ربما لما كان يلبسه من أشياء تقيه؛ فكان ذلك سببًا في شيوع أمره وكثرة أتباعه، وفي عهد أبي بكر تتبعه وأرسل إليه خالد بن الوليد على رأس جيش ففر إلى الشام، ثم أسلم ووفد على عمر وحسن إسلامه وبلاؤه في الفتوح، ثم استشهد في نهاوند، غفر الله له ورحمه ورضي عنه.
كان من أولئك المرتدين من منع الزكاة محتجًّا بالآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103) فقالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا من صلاته سكنًا لنا فشابه ذلك قول اليهود والعياذ بالله {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (يس: 47) حتى قال قائلهم: أَطَعنا رَسولَ اللَهِ إِذ كانَ بيننا ، فَيا لعباد الله ما أَبي بَكرِ
يعني: ينكرون أن يدفعوا لأبي بكر -رضي الله عنه- ما كان يدفعون لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- واختلف الصحابة حول قتال هؤلاء؛ إذ كيف يستبيحون دماء من قال لا إله إلا الله، والتبس عليهم فهم الحديث الشريف: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله))فجعلوا يناقشون الصديق في هذا وكان من بينهم أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- فقال عمر قولته لأبي بكر: كيف نقاتلهم وقد قال الرسول ما قال يقصد الحديث السابق، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "والله لا أقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال".
ورأى الصحابة أن الأخذ باللين أفضل في مثل هذه الظروف الحالكة، التي زلزلت فيها الأرض بالردة والنفاق، قال عمر: "يا خليفة رسول الله، تألف الناس وارفق بهم. فأجابه أبو بكر رجوت نصرتك وجئتني بخذلان؛ أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام، إنه قد انقطع الوحي، وتم الدين أوينقص وأنا حي؟!" ثم بين أبو بكر فقه الحديث الذي التبس على الصحابة فهمه، فقال: أليس قد قال رسول الله: ((إلا بحقها))ومن حقها الصلاة وإيتاء الزكاة، والله لو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي، وما هو إلا أن شرح الله تعالى صدر عمر، وصدر سائر الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- لقتال المرتدين، جعل الصديق على منافذ المدينة من جهة الأعراب رجال يحرسونها وينبئون المسلمين بأي خطر داهم عليهم من قبل الأعراب.
وكان ما توقعه أبو بكر من طبع بعض القبائل في الغارة على المدينة؛ إذ أقبلت غطفان ومن تابعهم ذات ليلة يريدون أن يبيدوا المسلمين، ويأخذوهم على غرة بليل، وما إن أحس رقباء النافذ بذلك حتى أخبروا الصديق؛ فخرج إليهم بجند المسلمين المرابطين -أين كان هؤلاء يرابطون- كانوا يرابطون في مسجد رسول الله؛ فالتقوا بالعدو وهزموهم وتابعوهم يريدون أن يمعنوا فيهم، ولكن العرب قد جعلوا وراءهم ردءًا -أي: عدد منهم- فأخافوا إبل المسلمين بالأنحاء، ووقع النفرة الإبل ورجعت بالمسلمين إلى المدينة، على أن أبا بكر لم يلبث أن خرج إليهم في آخر تلك الليلة فصبحهم في ديارهم، وأخذهم على غرة، فولوا الأدبار، وتركوا ديارهم، فحمها أبو بكر بخيل المسلمين وإبل الصدقة. وكان لهذا النصر على غطفان ومن تابعها أثر كبير في رفع الروح المعنوية في المدينة، ولدى مسلمي القبائل الأخرى فتثبتوا.
ثم كان نصر ثان حين وصل إلى المدينة أموال الصدقات من عدة جهات في هذه الأوقات العصيبة، فجاء صفوان بن صفوان بصدقات بني عمرو، وذلك في أول الليل من جهة النقب الذي عليه سعد بن أبي وقاص، وجاء الزبرقان بن بدر في وسط الليل بصدقات بني عوف من جهة النقب الذي عليه عبد الرحمن بن عوف، وجاء عدي بن حاتم الطائي بصدقات قومه من جهة النقب الذي عليه عبد الله بن مسعود. وتأمل إن الذين حموا المدينة، وكانوا على أنقابها هم أجله الصحابة -رضي الله عنهم- فسعد بن وقاص من جهة، وعبد الرحمن بن عوف من جهة، وعبد الله بن مسعود من جهة. والثلاثة من المهاجرين الأوائل.
ثم كان النصر الثالث وهو وصول جيش أسامة سالمًا غانمًا، فدعاهم الصديق إلى الراحة، وقال لهم: أريحوا ظهوركم، ثم بدأ يخطط للضربة القاضية على فلول أهل الردة، ومانعي الزكاة، قسم -رضي الله تعالى عنه- جيشه وجنده وعقد الألوية للقواد، فبلغت أحد عشر لواءً وكلف كل قائد بطائفة من المرتدين؛ هذا خالد بن الوليد يقاتل طلحة ومن معه من بني أسد؛ فإذا فرغ منهم قصد إلى مالك بن نويرة ومن معه من بني تميم، وكلف الصديق عكرمة بن أبي جهل بقتال مسيلمة الكذاب الحنفي في اليمامة، وكلف شرحبيل بن حسنة فأرسله دعمًا وعونًا لعكرمة بن أبي جهل على حرب مسيلمة وأمره أن فرغ من ذلك أن يذهبا إلى قضاعة معينًا لعمرو بن العاص، وكلف المهاجر بن أبي أمية بقتال الأسود العنسي ومن معه في اليمن، فإذا فرغ منهم مضى إلى المرتدين في حضرموت.
وكلف عمرو بن العاص بقتال قضاعة في الشمال، وكلف خالد بن سعيد بن العاص بقتال القبائل التي على مشارف الشام، وكلف حذيفة بن محصن بقتال أهل دبا، وهي عمان قديمًا وكلف عرفجة بن حرثمة الأزدي بقتال مهرة ثم يلتقي مع حذيفة، وكلف طارفة بن حاجز وأمره بقتال بني سليم ومن معهم من هوازن وكلف سويد بن مقرن وأمره بقتال القبائل المرتدة في يمامة اليمن، وكلف العلاء بن الحضرمي ووجهه لقتال المرتدين في بلاد البحرين. وانطلقت تلك الجيوش باسم الله كل إلى ما وجه إليه بعد أن وصاهم خليفة رسول الله بأن لا يبدءوا بقتال حتى يدعوهم إلى الإسلام، ويأمروهم بالدخول فيما خرجوا منه من دين الله، فإن أجابوا قبل منهم وأعطوهم ما لهم من الحق أيضًا، وأن أبوا قاتلوهم بلا هوادة حتى يفيئوا إلى دين الله ويعودوا إلى الإسلام.
تحركت الجيوش يقودهم أبطال عظام من خيرة المهاجرين والأنصار، وبعد أن أوصاهم الصديق وأبلوا البلاء الحسن في قتال المرتدين استشهد منهم عدد ليس بالقليل ولا سيما في حرب اليمامة؛ فقد ثبت بني حنيفة للمسلمين ومعهم قائدهم، فهزموهم؛ لكن عكرمة تعجل ولم ينتظر المدد، ثم رماهم أبو بكر بخالد بن الوليد فجال وصال هو وخيرة أصحاب رسول الله أمام بني حنيفة وثبتوا لهم حتى أزالوهم عن مواقعهم وقتلوا مسيلمة، وفتحوا عليهم حصونهم حتى أخضوعهم لسلطان الله وهم كارهون واستشهد في هذه المعارك عدد كبير من الحفظة فأشير على أبي بكر بجمع القرآن وكان مترددًا في ذلك حتى شرح الله صدره فعمد لهذه المهمة كما سنبينه فيما بعد.
لم ينقض عام أحد عشرة من الهجرة حتى عادت دولة الإسلام قوية، كما كانت في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لتستأنف مهمتها في تبليغ دعوة الإسلام، وكانت حروف الردة درسًا للمرتدين وللمسلمين معًا؛ فقد أثبتت تلك الحروب أن الدين الإسلامي كل لا يتجزأ، وأن العقيدة يجب أن تحترم من جميع جوانبها وأن التهاون في جانب منها لا بد أن يؤدي إلى التهاون فيها جميعًا وكان أبو بكر -رضي الله عنه- رجل الساعة بالفعل حين كشف عن نصاعة تصوره وسلامة عقيدته وكمال توكله وقوته في دين الله -تبارك وتعالى- وقام فيه هذه الأمة مقام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في حياطة دينها وحفظ ثوابتها وعقيدتها.
ومن أهم أعمال الصديق بعد ذلك: جمع القرآن في مصحف واحد؛ فقد خشي المسلمون أن يلبس أهل الكتاب -بعد تظاهر بعضهم بالإسلام، وقتل عدد كبير من حفاظ القرآن-على المسلمين كتابهم فيضعوا في القرآن ما ليس منه؛ لأنهم لفراغهم وانشغال المسلمين في حركة الجهاد أكثر صلة بالعامة، وأكثر اشتغالًا بالعلم، فربما دسوا ما يريدون أو سربوا ما يخشى أن يكون من غير كتاب الله؛ ففكر عمر بن الخطاب، وأوجس خيفة على القرآن؛ فعرض على أبي بكر أن يجمعه فتردد، وما زال عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر؛ فأرسل إلى زيد بن ثابت الأنصاري كاتب وحي النبي -عليه الصلاة والسلام- وتداول الأمر معه إلى أن شرح الله صدر زيد؛ فكلفه أبو بكر بتتبع القرآن وجمعه. قام زيد بالمهمة خير قيام، واعتمد على تحرير نسخة من القرآن مكتوبة في مجموعة من الصحف، على المصدرين اللذين حفظا النص القرآني حتى الآن وهو الحفظ المشافه من الحفظة الأقوياء والكتابة المدونة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
يقول زيد -رضي الله عنه-: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال. جمع القرآن في نسخة كاملة في صحف وسميت بالمصحف؛ لتكون أصلًا محفوظًا يصون الكتاب، الذي سمي كتابًا قبل أن يتم ظهوره في صورة كتاب، قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 1، 2). واستغرق الجمع نحو سنة واحدة، وهذا الأصل وقى النص القرآني من الزيادة أو النقصان، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
وكان من أهم أعمال أبي بكر الجليلة التي نشر الله بها الإسلام، وأعز الله بها الدين تسيير تلك الجيوش للفتوحات الإسلامية، وهذه من أعظم حسناته -رضي الله تعالى عنه- وهو أول من ابتدأ هذا الغزو والجهاد بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- وعلى منواله نسج بقية الراشدين وبقية الحكام الأمويين والعباسيين، بل والعثمانيين أيضًا لم تكن بدعًا في حياة هؤلاء وإنما كانت تتميمًا لما ابتدأه رسول الله؛ فقد جاء النبي الخاتم بدعوة عامة، أمر بإبلاغها إلى العالمين، وقام النبي بهذه المهمة فكتب الملوك والأمراء شرقًا وغربًا دعاهم إلى الإسلام، وقاد الجيوش وسيرها إلى أطراف الجزيرة، حتى تتعرف على الإسلام ورأينا أن الصديق -رضي الله تعالى عنه- واصل طريق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.
وصدمت الجيوش الإسلامية بدولتي فارس والروم فعن طريق تتبع جيوش الإسلام للمرتدين في البحرين والشمال الشرقي من شبه الجزيرة اصطدم خالد بن الوليد بالعرب المتنصرة الخاضعة للفرس في العراق؛ فكان ذلك إيذانًا بالمد الإسلامي في تلك الجهة، أما النصارى على مشارف الشام فقد كانوا من أتباع الروم البيزنطيين، وكانت وفودهم إلى المدينة للتجسس واستطلاع قوة المسلمين على الأغلب، أو خوفًا من القوة الإسلامية بعد أن عجز الروم عن حمايتهم، وكان القليل منهم من آمن بالعقيدة وحمل الدعوة إلى الله كتميم بن أوس الداري -رضي الله عنه- وفروة بن عمرو الجذامي من معان؛ فأرسل أبو بكر خالد بن سعيد بن العاص إلى شمال الجزيرة لحماية الدولة الإسلامية من تجمعات العرب المتنصرة، وكانت مرابطة الروم لا تزال بالبلقاء؛ فكان ذلك يعني الاصطدام بالروم البيزنطيين، وبذلك تكون الفتوحات الإسلامية قد بدأت بالفعل مع حركة القضاء على أهل الردة.
عقد الصديق -رضي الله تعالى عنه- ألوية الفتح لبلاد الشام، ولبلاد فارس والعراق، وجعل يرسل إرساليات لتلك البلاد، فشرحبيل بن حسنة وأمره بالتوجه إلى الأردن، وألحق به الوليد بن عتبة، وهذا لواء لعمرو بن بن العاص بن وائل السهمي ووجه إلى فلسطين وألحق به علقمة بن مجزز، وليزيد بن أبي سفيان عقد لواء ووجه إلى دمشق وألحق به معاوية بن أبي سفيان، ومعه جماعة من المجاهدين، وعقد لأبي عبيدة عامر بن الجراح، ووجهه إلى حمص، وجعل له القيادة العليا في حال اجتماع الجيوش الأربعة، وكان الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- قد دعا أبا عبيدة بأمين الأمة, وكان الصديق قد أمر كل أمير أن يسلك طريقًا غير طريق الآخر، لما لحظ في ذلك من المصالح، وكان بعثه لهذه الجيوش في أول سنة ثلاث عشرة. وقد خرج أبو بكر ماشيًا ويزيد بن أبي سفيان راكبًا، فجعل يوصيه ويودعه.
وبينا هذه الجيوش في طريقها للقيام بتلك المهام العظيمة، والقيام بتلك الفتوحات الكبيرة؛ إذ بدأ الصديق يتجهز للقاء ربه -تبارك وتعالى- حيث استمر المرض بأبي بكر، وأتته الحمى خمسة عشر يومًا، كان في أثنائها يحمل هم المسلمين، كلما دخل عليه صحابي سأله عن عمر بن الخطاب، حتى شملت استشاراته كل ذي رأي في الإسلام، وكانت أسئلته -رضي الله تعالى عنه- أسئلة لها مغزاها؛ فإنه قد أضمر في نفسه أمرًا أفصح عنه قبل موته ذلك أنه كان يريد أن يعهد بالخلافة لعمر من بعده، أجمعت الآراء لدى الصديق على أن عمر هو أصلح الناس للخلافة من بعده؛ فلما تم له الرأي دعا عثمان بن عفان فأملى عليه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد:...". ثم أغمي عليه -رضي الله عنه- فكتب عثمان: "فإني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرًا"، ثم أفاق فأعلمه بما كتب فقال له: "جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله" وأمره أن يكتب تتمة الكتاب: "فاسمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا؛ فإن عدل فذلك ظني به، وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم أشرف على الناس وزوجه أسماء بنت عميس ممسكته؛ فقال لهم: أترضون لمن أستخلف عليكم فإني والله ما آلوت من جهدت الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد وليت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وكان هذا بمثابة ترشيح لعمر بالخلافة وبعد أن توفي -رضي الله تعالى عنه- تلقى عمر بن الخطاب البيعة العامة، وأصبح خليفة أبي بكر على المسلمين يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جماد الثانية سنة ثلاث عشرة، وأعطى الصديق بذلك المثل الأعلى للقائد المسلم، وللداعية المسلم؛ فهو يعالج سكرات الموت وهو على فراشه؛ إذ قدم المثنى بن حارثة الشيباني وطلب المدد؛ فقال أبو بكر: عليك بعمر، فجاء فقال: "اسمع يا عمر، ما أقول لك ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا -وذلك يوم الاثنين- فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، أي: يندب الناس للخروج في الجهاد مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل؛ فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم". رضي الله عن أبي بكر وأرضاه وجعل فيه قدوة صالحة لأمراء المسلمين وحكامهم في كل زمان ومكان.
وجاء علي بن أبي طالب يوم وفاة الصديق؛ فوقف بالباب فقال: "رحمك الله يا أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا، وأشدهم يقينًا، وأعظمهم غناء، وأحفظهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحدبهم على الإسلام، وأحناهم على أهله وأشبههم برسول الله خُلقًا وخَلقًا وهديًا وسمتًا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله خيرًا، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وكنت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقًا فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (الزمر: 33) كنت والله للإسلام حصنًا وعلى الكافرين عذابًا..." وجعل يذكر مناقب الصديق -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- حتى انتهى إلى قوله: "ضعيفًا في بدنك قويًّا في أمر الله، متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله، جليلًا في الأرض كبيرًا عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة؛ فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى الحق له، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك". وصدق عمر حين قال: "لقد أتعب أبو بكر من جاء بعده" فرحمة الله الواسعة وجزاه الله عن صحبه النبي، وعن النصح للمسلمين وعن الإسلام خير ما يجزى به الصادقون المحسنون اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين
الدعوة في عهد الفاروق -رضي الله عنه- 13-23 هـ • ما إن انتهى المسلمون من دفن الصديق حتى أقبلوا على عمر؛ فبايعوه البيعة العامة، وتم الإعلان العام عن الخليفة، والرضا التام من الأمة، وأعطته الأمة العهد على أن تسمع له وأن تطيع، وأن تؤازره وتناصره ما دام قائمًا فيهم بكتاب الله وسنة رسوله، كما أعطى عمر العهد من نفسه للأمة على أن يسير سيرة من سبق، وهما رسول الله وأبو بكر، وأوضح عمر منهجه في الحكم وسياسته في الرعية من أول يوم فقال: "إنما مثل العرب مثل جمل أنف فأتبع قائده فلينظر قائده أين يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق".
وإذا كانت مدة خلافة أبي بكر يسيرة؛ فإن مدة خلافة "عمر" بورك فيها فكان من أطول الخلفاء الراشدين عهدًا بالأمة، وبورك للأمة في عهده أعظم البركة فجمع الله تعالى شئونها، ونشر أعلامها، واتسعت رقعتها وتحققت بشارة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أخرج البخاري من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((بينما أنا على بئر أنزع منها؛ جاءني أبو بكر وعمر؛ فأخذ أبو بكر الدلو فنزع ذنوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب من يدي أبي بكر فاستحالت في يده غربًا؛ فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه فنزع))وفي رواية أبي هريرة: ((بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو؛ فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربًا فأخذها ابن الخطاب فلما أر عبقريًّا من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن)).
يقول ابن حجر في شرحه للحديث: وقد ذكر الشافعي في تفسير هذا الحديث في "الأم"، فقال بعد أن ساقه: ومعنى قوله: ((وفي نزعه ضعف))قصر مدته وعجلة موته، وشغله بحرب أهل الردة عن الافتتاح والازدياد الذي بلغه عمر في طول مدته، وفيه إشارة أيضًا إلى طبيعة أبي بكر إلى اللين والرفق بالرعية، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فلم أر عبقريًّا من الناس يفري فريه))فالمراد به أنه بلغ النهاية والغاية القصوى في نزعه حتى روى الناس وضربت الإبل فناخت واستراحت، وذلك إشارة أيضًا إلى طول مدة خلافة عمر وإلى تمام الأمر في عهده، حيث استقرت الأمور، واستقامت الرعية، وبلغت الفتوحات مبلغًا عظيمًا في الشرق والغرب. وتحقق العدل بين الناس، وصار حال الأمة على أحسن نظام، وأبلغ ترتيب عرف في عهد من العهود بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
عمر -رضي الله تعالى عنه- عاش خمسًا وستين سنة أمضى منها ثلاثين سنة في الهجرة، وكان موكلًا بالسفارة لقريش، فكانوا إذا وقعت الحرب بينهم، وبين غيرهم بعثوه سفيرًا للمفاوضة عنهم، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به مفاخرًا ومنافرًا. • وقف عمر بشدة في وجهة الدعوة الإسلامية، وعندما اهتدى أصبح أسلوبًا وحده في إسلامه ونسيجًا وحده في هجرته، وكان أمة وحده في شدته في الحق، وفي رحمته بأهل الإيمان، ولقد كان الحق على لسان عمر وفي قلبه كما وصفه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بالفاروق.
حمد الله في أول ما تولى الخلافة وأثنى عليه وصلى على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر صاحبه الصديق وبين فضله ثم قال: "أيها الناس ما أنا إلا رجل منكم ولولا إني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله، ما تقلدت أمركم" ثم توجه بنظره إلى السماء فقال: "اللهم إني غليظ فليني اللهم إني ضعيف فقوني، اللهم إني بخيل فسخني"، ثم قال: "إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزل والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، وإن أساءوا لأنكلن بهم".
زاد سياسته إيضاحًا للمسلمين في قوله: بعد أن بين أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- توفي وهو راضٍ عنه وكذا الصديق توفي وهو راضٍ عنه. قال: "ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فأعموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد، فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ولا يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف، ولكم علي -أيها الناس- خصال أذكرها لكم فخذوني بها: لكم علي ألا أجتبي شيئًا من خراجكم، ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم -إن شاء الله تعالى- وأسدد ثغوركم، ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمركم في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال، فاتقوا الله عباد الله وأعيونني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النصيحة فيما ولاني الله من أمركم". هذه سياسته رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وأول ما ابتدر من أعمال: أن اهتم بفتح العراق، والعراق هو ذلك الجزء الشرقي من الهلال الخصيب، يجري فيه نهرا دجلة والفرات فسميت العراق: أرض الرافدين، أو بلاد ما بين النهرين واشتهرت بخصبها نظرًا لما يحمله النهران معهما من رسوبات كونت مع الزمن سهلًا خصبًا في جنوب العراق، وقد ضمت هذه البلاد عددًا من القبائل العربية قبل الإسلام، منها إياد وبكر وبنو وائل والنمر وابن قاصد وتغلب، وكلب وقضاعة وأسد.
وقد تنصرت تلك القبائل مع سكان الحيرة من العرب من قبائل طيئ وكلب وتيم والأزد ولخم وغسان وكندة، وحمير ومذحج وبني الحارث بن كعب وسليم وتنوخ، وكانت نصرانيتهم على المذهب النسطوري، وأطلق عليهم اسم العباد، وجعل عمر -رضي الله تعالى عنه- يرسل الجيوش جيشًا بعد جيش ويلحق الجيوش جيشًا بجيش لافتتاح العراق، أرسل عمر مددًا بقيادة جرير بن عبد الله البجلي قوامه أربعة آلاف، وسيرهم إلى العراق لنجدة إخوانهم هناك حيث سار أبو عبيدة بمن معه من المجاهدين قبل ذلك إلى أرض العراق، وأمر عمر أن يتقدم المثنى فيلحق بجيش أبي عبيدة، وهكذا صار المسلمون جندًا كبيرًا وجيشًا جحفلًا مسيرين جميعًا إلى العراق.
كما كتب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح في الشام: أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد بن الوليد إلى العراق، فسيرهم أبو عبيدة بعد فتح دمشق، بإمرة هشام بن عتبة بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنهم- وبعث رستم جيشًا لقتال أبي عبيدة؛ فالتقى الطرفان في النمارق فكسرهم الله -تبارك وتعالى- وولى أولئك الفرس الأدبار ففروا إلى المدائن، ثم لما علم رستم بهزيمة الجيش في النمارق، جهز جيشًا عظيمًا تحت قيادة بهمن جاذويه ومعه الراية العظمى لفارس، والتقى الجيشان على نهر الفرات، وانتصر المسلمون في هذه المعركة، وإن كانت شدة الفرس قد ظهرت، ووطأتهم على المسلمين قد بانت، حيث فر بعضهم وغرق البعض في نهر الفرات.
وسارع المثنى فأصلح الجسر وأخذ يقاتل حول الجسر حتى عبر مع من بقي مع المسلمين، ولكن عددًا كبيرًا تفرق ورجعوا إلى ديارهم استحياءً من هذه الهزيمة، وبقي المثنى جريحًا في قلة من الجيش، ولما علم عمر بخبر الهزيمة حزن، وقال: يرحم الله أبا عبيد، لو كان انحاز إلي لكنت له فئة، ثم أمد عمر المثنى بعدد كبير، ووصل إلى المثنى كما قدمنا جرير بن عبد الله البجلي ومن معه وأصبح بالمسلمين قوة.
ووقعت معركة البويه فكانت بمثابة المقدمة للقادسية، التي بسط الله فيها كلمة الإسلام، وأعلى فيها راية التوحيد، ورزق الله تعالى فيها المسلمين النصر، وهزم الله تعالى فيها الفرس؛ فكان ذلك كسرًا لرستم وليزدجرد الذي أرسله من خلفه، وقصة القادسية شهيرة مذكورة والإطالة بها ليس من مقصودنا في هذا المقرر الدراسي، ولا شك أن النصر يغري بالنصر، فقد طمع المسلمون بغزو الفرس في عقر دارهم، واستقر في نفس عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من أهل الرأي من المسلمين: أن المسلمين لن يكسروا شوكة الفرس، إلا إذا غزوهم في عقر دارهم فقهروهم وغلبوهم على عاصمتهم المدائن، وأيأسوهم من العراق مطلقًا.
وسار سعد بجيشه إلى المدائن فافتتحها على بركة الله وبسم الله، وما إن استتب الأمر في بلاد فارس والعراق، حتى ولّى عمر وجهه شطر بلاد الشام والأناضول ومصر، وفي بداية القتال العنيف على الجبهة الغربية بين المسلمين والرومان في معركة اليرموك، والتي دارت أحداثها في أوائل شهر رجب من السنة الثالثة عشرة للهجرة، نصر الله المسلمين بقيادة خالد على الروم نصرًا مؤزرًا، وفر الروم من اليرموك.
وانتقلت إمرة الجيش من خالد إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح بأمر من عمر -رضي الله عنه- ولما بلغ أبا عبيدة أن فلول الروم لحقوا بمدينة فحل وأن مددًا عظيمًا من قبل الروم أتى دمشق، كتب إلى أمير المؤمنين عمر يستشيره بأي البلدين يبدأ، فكتب إليه عمر أن ابدأ بدمشق؛ فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، وأشغلوا عنكم أهل فحل بخيول تكون لقاءهم؛ فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب، وإن فتحت دمشق فسر أنت ومن معك واستخلف على دمشق؛ فإن فتح الله عليكم فحل فسر أنت وخالد إلى حمص، واترك عمرو بن العاص وشرحبيل على الأردن وفلسطين.
وفتح الله عليهم فحلًا ثم فتحت دمشق ثم حمص ثم أجنادين وبيت المقدس، وكان ذلك بفضل الله تعالى ومنته، فعزم عمر على السفر إلى الشام ليتسلم بيديه مفاتيح المسجد الأقصى، وخلف على المدينة المنورة علي بن أبي طالب وكتب إلى عماله أن يوافوه بالجالية بدمشق، وجاءه أهل إيلياء وهو بالجالية، جاءوه مستأمنين فصالحهم عمر على الجزية، وكتب لهم أمانًا أمنهم فيه على كنائسهم وأموالهم وأنفسهم، ودخل عمر مدينة بيت المقدس وابتنى مسجدًا فوق الصخرة اشتهر فيما بعد بمسجد عمر بن الخطاب، رجع بعدها إلى المدينة فائزًا منصورًا مظفرًا وكانت هذه أول مرة سافر فيها إلى الشام.
ثم استأذن عمرو بن العاص أمير المؤمنين عمر في فتح مصر، وزين له فتحها، وذكر له خيرها وخبرها، وأنها قوة عظيمة لمملكة الروم، وكانت إذ ذاك تابعة لهم، وعليها وال من قبلهم يقيم بالإسكندرية خاصة، وأن المسلمين قد انتهوا من فتح الشام، وانتهى عمرو نفسه من فتح فلسطين، فاستجاب عمر بن الخطاب لطلب عمرو فسار إلى مصر؛ فأمده بالزبير بن العوام ومعه بسر بن أرطأة وخارجة بن حذافة وعمير بن وهب الجمحي، فالتقوا عند باب مصر ولقيهم أبو مريم ومعه أسقف أبو مريان، وقد بعثه المقوقس من الإسكندرية، فدعاهم عمرو إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، وأخبرهما بوصية رسول الله بأهل مصر بسبب هاجر أم إسماعيل، ومارية القبطية أم إبراهيم ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرنا من قبل ما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((إنكم ستفتتحون مصر، وهي أرض فيها يسمى القيراط فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحمًا))أو قال: ((ذمة وصهرًا)).
