1 / 46

تاريخ الدعوة

تاريخ الدعوة. الدرس الثالث. التعريف بهود -عليه السلام- وبقومه.

Download Presentation

تاريخ الدعوة

An Image/Link below is provided (as is) to download presentation Download Policy: Content on the Website is provided to you AS IS for your information and personal use and may not be sold / licensed / shared on other websites without getting consent from its author. Content is provided to you AS IS for your information and personal use only. Download presentation by click this link. While downloading, if for some reason you are not able to download a presentation, the publisher may have deleted the file from their server. During download, if you can't get a presentation, the file might be deleted by the publisher.

E N D

Presentation Transcript


  1. تاريخ الدعوة الدرس الثالث

  2. التعريف بهود -عليه السلام- وبقومه • نبي الله تعالى هود هو: هودُ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ويقال في نسب هود: أن هود هو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. ويقال: هود بن عبد الله بن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، كان هود من قبيلة يقال لها: عاب بن عوص بن سام بن نوح. • سكن قوم هود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- منطقة يقال لها: الأحقاف، فقبيلته -قبيلة عاد- كانوا عربًا يسكنون الأحقاف، والأحقاف هي: جبال الرمال، كانت بين عُمَان وحضرموت من أرض اليمن، وكانت أرضهم مُطلةً على البحر، ويقال لها: الشحر، وكانوا كثيرًا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} (الفجر: 5، 6) أي: عاد إرم، وهم عاد الأولى، وأما عاد الثانية فمتأخرة.

  3. وقوم هود قد زادهم الله -عز وجل- في الخلق بسطة، وجعلهم أشدّ أهل زمانهم، كانوا في رغد من العيش وسعة منه؛ سطّر القرآن الكريم ذلك في مواضع، إلا أنهم لم يشكروا الله -عز وجل- على هذه النعم وكفروا بنعمة الله، ثم إنهم عاندوا رسولهم، فأهلكهم الله -عز وجل- بريح صرصر عاتية، قوم هود عبدوا الأصنام من دون الله -عز وجل- بل قال ابن كثير: هم أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، وكانت أصنامهم ثلاثة: "صمذا"، و"صمودا"، و"هِرا"، وهم حين عبدوا الأصنام كانوا في ذلك يُضاهئون قوم نوح، فقوم نوح عبدوا -كما تقدم- "ودًّا"، و"سواعًا"، و"يغوث"، و"يعوق"، و"نسرًا"، وهذا الضلال شاكلهم فيه وشاركهم قومُ هود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وجرت سنة الله -عز وجل- أن يرسل الرسل تترا، كلما وقع انحراف في هذه البشرية أرسل الله -عز وجل- من الرسل من يقيم عقيدة التوحيد، ويصحِّح ما وقع من انحراف فيها، هذه سنة الله -تبارك وتعالى- فأرسل الله -عز وجل- إلى قوم هود هودًا، أرسل الله -عز وجل- إلى عاد هودًا، يدعوهم إلى الله، يأمرهم بعبادته وحده دون سواه، ينهاهم عن عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع

  4. عرض دعوة هود -عليه السلام- لقومه • دلّت نصوص القرآن الكريم أن هودًا -عليه السلام- ابتدأ قومه بالدعوة إلى الله من نقطة الخلاف الأولى، وقد كرّر الدعوة إلى التوحيد واستخدم كثيرًا من الأساليب؛ نوّع بين الإنذار واللّوم، وجمَع إلى هذا الترغيب والحثّ، وعالج شبهات القوم، ورد على اعتراضاتهم، وساسهم بكلّ سبيل يأخذهم به إلى الله -عز وجل. • والقرآن الكريم يحدثنا عن أول ما ابتدأ به هود دعوته إلى قومه، فإنه أمرهم وذكّرهم وبيّن لهم وخوّفهم من عذاب الله الأليم إن هم أصرّوا على الشرك بالله -عز وجل- وتأمّل قولَ الله تعالى في سورة الأحقاف: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأحقاف: 21).

  5. ثم إنه استخدم الإنذار بأسلوب عرض مشوبٍ بالتلوين مع بيان أنه لقومه رسولٌ أمين، وأتبع هذا بالدعوة إلى أن يطيعوه ويتقوا الله، دلّ على هذا قول الله -عز وجل- في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (الشعراء: 123-126) قوله -عليه السلام- كما حكى القرآن: {أَلا تَتَّقُونَ}هذا عرض لأسلوب الاستفهام، وهذا العرض مشوبٌ بالتلوين.

  6. ثم إنه كرّر الدعوة إلى التوحيد فقال بأسلوب فيه شيء من الإنكار كما قال الله -عز وجل- في سورة الأعراف: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} (الأعراف: 65) نفهمُ شدة التلوين من إضافة الفاء العاطفة على عبارة: {أَفَلا تَتَّقُونَ}أي: أأعرضتم عن دعوتي السابقة لكم: بأن تتقوا عذاب الله فلا تتقون؟.

  7. ثم إنه كرر الدعوة إلى التوحيد مع الهجوم على عقيدتهم الشركية بأنهم يفترون فيها على الله؛ باتخاذ الشركاء من دونه -تبارك وتعالى- وأنه يخترعونها من عند أنفسهم، ويجعلون لها أسماء دون أن تكون لهم أدلة عقلية أو تجريبية عليها، بل الأدلة العقلية والحسية تشهد بأنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًّا، فليس لها أن تشارك الله -عز وجل- في ربوبيته، وليس لها أن تشارك الله -عز وجل- في إلهيته، وليس لديهم أدلة خبرية عن الله -عز وجل- تأمر بعبادتها، أو تأذن بها، فلم يبقَ لهم إلا أنهم في هذه العبادة مفترون. دل على هذا قول الله -جل وعلا- في سورة هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} (هود: 50) أي: ما أنتم إلا مفترون افتراءً يختلق الكذب ويصطنعه.

  8. ثم إنه -عليه السلام- استخدم سياسة الترغيب بثواب الله العاجل في الدنيا، والآجل في الآخرة، ورهبهم من عقاب الله العاجل والآجل أيضًا، وهذا أحد عناصر سياسة جميع أنبياء الله ورسله، وسياسة سائر الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- دل على ترغيب هود -عليه السلام- في ثواب الله المُعجَّل قوله لقومه كما حكى الله عنه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52) ودل على الإنذار بالعقاب المعجَّل قول قومه له كما جاء في سورة الأعراف: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الأعراف: 70) وقول الله تعالى في سورة الأحقاف: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24، 25).

  9. وأما الترغيب والترهيب بما عند الله -عز وجل- يوم القيامة فهما بلا شك من القواعد الأولى التي تقوم عليها الرسالات الإلهية الربانية كلها، وكل أمر بتقوى الله يشتمل على التحذير من عقابه يوم القيامة، ويتضمن لزومًا فكريًّا الترغيب في ثوابه بجنات النعيم. • ثم إن قوم هود اعترضوا على هود في دعوته، وكانت اعتراضاتهم كثيرة ومتعددة، فقام هود -عليه السلام- بدفع تلك الاعتراضات التي أوردها قومه عليه، ورد بنفسه عن نفسه تلك الشبهات، بل وتلك الشتائم التي وجهها إليه قومه، يعترضون على بشريته وهذا اعتراضهم الأول، يدَّعون أن الله -عز وجل- لو شاء أن يرسل رسلًا لأنزل ملائكة

  10. وتأمل ما في سورة فُصّلت بشأن عاد وثمود حين خوطب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بمعرض الحديث عن مشركي مكة، يقول الله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (فصلت: 13، 14) لو شاء الله -عز وجل- أن يُرسِل الرسل لجعل من الملائكة رسلًا، دفع هود -عليه السلام- هذا الاعتراض بقياس نفسه على نوح -عليه السلام- فقد سبق وأن أَرسَل الله -عز وجل- رسولًا بشريًّا كانوا على علم به وبرسالته وبما وقَع للمكذّبين من قومه الذين كانوا بالله تعالى يُشركون، كان نوح بشرًا ولم يكن ملكًا واستنكر عليهم أن يتعجبوا من كون الرسول بشرًا، فيجحدوا رسالته لهذه العلة، مع أنهم من سلالة الذين آمنوا بنوح ونجوا معه في السفينة وهم من ذريته، فهو يذكرهم بهذا، ويرد عليهم هذا الاعتراض، كما جاء في سورة الأعراف حكايةُ مقالتهم هذه من قول ربنا جل وعلا: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69).

  11. ثم إنهم ما فتئوا يعترضون مرة أخرى يعترضون على هود بأن له مصالح دنيوية، يريد أن يتخذ الدعوة سُلّمًا لتحقيقها، ويتهمونه بأنه يتخذ الدعوة الدينية سِتارًا لتحقيق أغراضه ومصالحه في قومه، فكأنه يريد بدعوته مالًا أو يطلب بها سُلطانًا، وقد رد هود -عليه السلام- على هذا الاعتراض المتكرر بمثل ما رد به سائر المرسلين؛ وهو: أنه لا يسألهم أجرًا ولا يريد منهم أجرًا ماديًّا ولا معنويًّا، لا يطلب منهم جاهًا ولا سلطانًا ولا ملكًا، ودل على هذا الرد قوله لهم كما جاء في سورة الشعراء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 109) وفي سورة هود {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} (هود: 51) هذا مَنطِق رسل الله قاطبة، وهذا أصل من أصول دعوتهم أنهم لا يطلبون على الدعوة أجرًا ولا يرجون من ورائها مغنمًا، وهود -عليه السلام- جلّى ذلك بأوضح عبارة وبأفصح إشارة فأظهر هذا المعنى وبينه وجلاه.

  12. لكن القوم بعدُ لم تنته اعتراضاتهم، فاعتراضهم الثالث كان بأن هود -عليه السلام- لم يأتهم ببينة لم يأتهم بآية معجزة، لم يأتهم بشيء خارق حتى يؤمنوا، وكأن الإيمان برسل الله -عز وجل- لا يتأتى إلا إذا جاءوا بالخوارق والمعجزات، دل على هذا الاعتراض قول الله تعالى في حكاية قولهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 53، 54) وهذا ادِّعاء كاذب وجحود فقد قال الله -عز وجل- في سورة إبراهيم حكاية لقول موسى -عليه السلام- لقومه بني إسرائيل: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (إبراهيم: 9) فهذا يدل على أن قوم عاد جاءتهم البينات، كما هو الحال في شأن قوم نوح وفي شأن قوم ثمود، والله -عز وجل- ذكر ذلك في سورة التوبة في معرض الحديث عن المنافقين والكافرين، قال -جل من قائل-: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (التوبة: 70) ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد هذا المعنى فيقول كما أخرج البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)).

  13. وأما ادعاؤهم أنه لم يأتهم بما اقترحوا هم عليه من الخوارق فهذا ادعاءٌ قد يكون مقبولًا، وقد يكون هو المراد، ومن المعلوم من سنة الله -عز وجل- في الأمم أنه لا يستجيب للمقترحات التي تقترحها الأقوام بشأن المعجزات، وأن العادة أنه إذا استجاب إليهم بناء على طلبهم كما وقع بشأن ناقة صالح -عليه السلام- أنهم يُصرون أيضًا على عنادهم ويبقون أيضًا على تكذيبهم، وعندها لا يستحقون إمهالًا؛ لأنهم حين طلبوا البينة القاهرة والمعجزة الباهرة طلبوها لأجل الإيمان، فإذا وقعت فلم يؤمنوا دل هذا على أن هؤلاء لا يؤمنون، فإن الله -عز وجل- عندئذ لا يُمهلهم، بل يعجل لهم الإهلاك العام، أو يُعجل بإهلاك من طلب هذه الآية أو طلب هذه البينة من القوم إذا كانوا أفرادًا معدودين، ولم يكن توجيه الطلب من كل القوم أو من معظمهم بصورة عامة.

  14. وهود -عليه السلام- واجه هذه الشبهات ودفع تلك الشتائم، التي وُجِّهت له، واستعمل في ذلك أمورًا كثيرة منها الدفع بالنفي المجرد لشتمهم له؛ بأنه منغمس في سفاهة أي في نقص عقل ينتج سوء تصرف، ومن ذلك: أنه ادعى النبوة والرسالة، وأنه دعا قومه بأن يذروا آلهتهم التي يعبدون من دون الله، وأمرهم بأن يعبدوا الله وحده لا يُشركون بعبادته أحدًا، وهم أيضًا جمعوا إلى ذلك السب أن سبوه بالكذب، فاعتقدوا أنه من الكاذبين، وهذا دل عليه قول الله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } (الأعراف: 66-68).

  15. الأمر الثاني: أنه أعرض عن شتمهم له بأنه مصاب في عقله أو في نفسه من قِبَل بعض آلهتهم التي تمرد على عبادتها، وخالف ما عليه الآباء والأجداد من الخضوع لها والتذلل لها، وإذا اكتفى هود -عليه السلام- بالإعراض عن دفع هذه المسبة فقد رأى أن يُعلن لهم أنه يُشهد الله ويشهدهم على أنه بريء مما يُشركون؛ ليثبت لهم بأسلوب غير مباشر كمال عقله وثبات خصائصه النفسية، وأن آلهتهم لم ولن تمسّه بسوء، ولا تستطيع ذلك مع أنه يُعلن تبرؤه منها، دل على هذا قول الله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: 53، 54) ثم إن هودًا -عليه السلام- جادل قومه بالتي هي أحسن فاعتمد على أمرين:

  16. الأول: أن يَدفع اعتراضات القوم بالحجج العقلية والأدلة الصحيحة الصريحة، التي ليس لديهما يبطلها. • والأمر الثاني: أن يقيم الأدلة العقلية والحجج البرهانية التي تُفحمهم وتبيّن صحة ما يدعوهم إليه من توحيد، وتبين فساد ما هم عليه من شرك، فاستدل على التوحيد بأن الله تعالى وحده فاطر السموات والأرض، وهذا أمرٌ ظاهر الأدلة في الظواهر الكونية، ليس فيه شك لدى العقلاء، ومن كان هو الخالق فلا بد أن يكون وحده هو الإله المعبود، وتأمل ما ورد في سورة إبراهيم من هذه المحاجَّة التي حكاها القرآن عن موسى -عليه السلام- وقوله لقومه بني إسرائيل بشأن ما قاله رسل قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لأقوامهم، قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (إبراهيم: 10) واستدل على نفي استحقاق آلهتهم أن تكون معبودة من دون الله بأنها لا تعدو أن تكون أسماء هُم سموها، فليس لها من حقيقة الربوبية أو الإلهية شيء، ولم يأتِ من عند الله أمر ولا إذن بعبادتها، فحين قالوا له متعجبين من دعوته كما جاء في سورة الأعراف: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (الأعراف: 70) أجابهم: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (الأعراف: من الآية: 71).

  17. والأمر الثالث: الذي انتحاه -عليه السلام- أن يوجِّه النصح لهم، وفعل ذلك في عدة قضايا: • القضية الأولى: أن يتركوا أعمال العبث، التي ينفقون فيها أوقاتًا وأموالًا وطاقات؛ لمجرد التفاخر والمباهاة بقدرتهم البِنائية تارة والفنية أخرى، ويُشعرون غيرهم بعظمتهم ويَشعرون هم في أنفسهم بتفوق بلادهم على غيرها من البلاد دون أن تكون فائدة في الحياة أو أن يوجهوها لما فيه نفع وخير هذه الأمة، جماهيرهم أحوج إلى ذلك منهم إلى مظاهر التكبر والتعاظم، فقد كانوا يفعلون نظير ما كانت تفعل الفراعنة من بعدهم؛ إذ بنوا الأهرامات ونحتوا أعمدة المِسلات ونصبوها كعلامات، وكانت وسيلتهم إلى ذلك سَوق الناس بالجبر والإكراه والإذلال كالجمال والحمير والبغال، دل على نصيحته لهم في هذه القضية قول الله تعالى كما في سورة الشعراء {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (الشعراء: 128) والريع: تطلق على السبيل سواء سُلك أو لم يُسلك، وعلى الطريق المنفرج بين الجبال وعلى الطريق عامة، والله -عز وجل- حين ساق هذا ساق استفهامًا فيه معنى النصح وفيه معنى اللوم على العبث؛ أي على ما لا فائدة منه، نصحهم هود -عليه السلام- بترك هذه العادة التفاخرية التي تبذل فيها أموال وطاقات بغير نفع، فهي من مظاهر الإسراف والتبذير وتضييع الثروات بالعبث، وهذه العلامات التفاخرية، فهي كالأصنام التي تصنع للحكام وذوي السلطان الجبارين، وليست للناس فيها أدنى مصلحة.

  18. الأمر الثاني الذي نصحهم فيه هود عليه السلام: أن يضعوا دائمًا نصب أعينهم وفي ذاكرتهم الدار الآخرة، وأن يتذكروا الموت، وأن يتفكروا به وبما يكون بعده وبالحساب والجزاء يوم الدين، وأن يوجِّهوا كل اهتمامهم ليوم الخلود، فإن هذا يصرفهم عن العمل للدنيا وتوجيه كل طاقة لها دون أن يسعوا سعيًا حثيثًا للآخرة، دل على نصيحته لقومه في هذه القضية قول الله -عز وجل- كما في سورة الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (الشعراء: 129) مصانع: جمع مصنعة وجمع مصنع أيضًا، والمصانع في اللغة: تطلق على ما يُصنع من أبنية أو قصور أو حصون أو أحواض مياه ونحو ذلك، والأصمعي يقول: العرب تُسمي القرى مصانع، فهود -عليه السلام- لم يُنكر عليهم اتخاذ المصانع من أبنية وقصور وحصون وغير ذلك، وإنما أنكر عليهم انصرافهم الكامل لشئون الدنيا، يرجون الخلود في العز والمجد والقوة والسلطان ورفاهية العيش؛ ولهذا قال {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}وهذا لا يكون بحال.

  19. الأمر الثالث الذي نصحهم فيه: ألا يستكبروا في الأرض على عباد الله، وألا يتخذوا الوسائل التي يُذلون بها الأقوام الأخرى بما آتاهم الله من قوة، ومن مظاهر استكبارهم على غيرهم من الأقوام: أنهم كانوا إذا بطشوا في حروبهم بطشوا جبارين ظالمين معتدين؛ لمجرد إظهار تفوقهم وقوتهم وإذلال غيرهم بغير حق، وكذلك إذا بطشوا في غير الحرب فيما يريدون السطو عليه بطشوا جبارين، دل على نصيحة هود -عليه السلام- لقومه في هذه القضية قول الله -عز وجل-: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 130).

  20. ثم أردف ينصحهم في أمر رابع: بأن يتقوا الله الذي أمدَّهم بنعمه الكثيرة، وأن يتقوا عذاب الله -عز وجل- بأن يطيعوا رسول ربهم فيما يدعوهم إليه من إيمان وإسلام وعمل صالح، كما حكى ذلك ربنا في كتابه فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 131: 135) فماذا كان رد القوم؟ {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (الشعراء: 136-138) إن هذا إلا خلق الأولين: أي: ما هذا الذي تستنكره علينا وتعظنا بتركه إلا سلوكٌ كان يفعله آباؤنا وأجدادنا الأولون، وهو أثر من آثار أخلاقهم ونحن على آثارهم مقتدون، وقُرئ "إِنْ هَذَا إِلَّا خَلْقُ الْأَوَّلِينَ" بفتح الخاء وإسكان اللام، والمعنى: ما هذا الذي تنذرنا به يوم الدين إلا افتراء واختلاق مدعي البعث بعد الموت من الأولين، فتكاملت القراءتان وانتظمت هذه الآيات.

  21. وصل كفار قوم هود -عليه السلام- إلى شِبه ما وصل إليه كفار قوم نوح، وتعرض -عليه السلام- لأذى قومه، فقابل أذاهم بالصبر، وأخيرًا أعلنوا إصرارهم على تكذيبه، وأعلنوا تحديهم له بأن يأتيهم بالعذاب المعجل، الذي ما زال يعدهم به؛ فأجابهم: بأن أمر إهلاكهم هو بيد الله لا بيده، وأن العلم بوقت إهلاكهم هو عند الله، عندئذ هددوه بأن يقتلوه، فتحداهم بأن يفعلوا ما يشاءون، وأعلن توكله على الله، ولما وصلوا إلى حالة ميئوس منها أهلكهم الله -عز وجل- قال جل وعلا على لسان هؤلاء القوم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 70-72) وفي سورة الأحقاف: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (الأحقاف: 22، 23) وفي آية أخرى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الشعراء: 139، 140) ثم جاء التعقيب الرباني: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} (هود: 58-60).

  22. معالم من دعوة هود عليه السلام • شك أن هذه القصة تزخر بالآيات والعظات وتكثُر فيها الدروس والعبر، ونحن نشير إليها بإشارات موجزة: • هذه القصة بجملتها تُعلّم الدعاة أن تكون الدعوة إلى صحة المعتقد هي أول ما يُدعى إليه الناس. • وهي أيضًا تُعلمنا أن الداعية هو الذي لا يُقابل السيئة بالسيئة، بل يُقابلها بالحسنى، وهي تعلم أيضًا الثقة في نصر الله -عز وجل- وذلك بعد تحقيق التوكل على الله -عز وجل- حق التوكل، فقد قال هود كما حكى القرآن حينما اتهمه قومه وافتروا عليه: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} (هود: 54-56) هكذا أعلنها هود -عليه السلام- وهكذا يجب أن يُعلنها الدعاة في كل زمان ومكان.

  23. والدرس الثالث: أن على الدعاة وهم يدعون الناس ويرشدونهم- أن يتصفوا ويتحلوا بما تحلّى به هود -عليه السلام- في سعة صدره وعدم مقابلته الشر بمثله، وعليه أن يتحمل قسوة المدعوِّين وقبح ردهم، كل ذلك من أجل أن يصل إلى غايته من هدايتهم أو هداية بعضهم. • ثم إن هودًا -عليه السلام- يعلم الدنيا بأسرها أن من أراد في هذه الحياة رغدَ العيش- فإن عليه أن يطيع الله وأن يكثر الاستغفار كما قال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هود: من الآية: 52).

  24. تعلمنا دعوة هود أيضًا أن الشكر يُديم النعم، وأن كفر النعم يؤدي إلى زوالها والقضاء عليها، فعاد إرم ذات العماد لم يخلق الله -عز وجل- مثلها في البلاد، أسبغ الله -عز وجل- عليهم النعم ظاهرة وباطنة، آتاهم المال والولد، وأمدهم بالقوة في أبدانهم، وأعطاهم السعة في أموالهم، حتى تعالوا في البنيان، ولكن القوم ما عرفوا لهذا النعيم وذاك الترف والبذخ - ما عرفوا لذلك كله حقًّا؛ فكان الجزاء لهم من الله أن صبّ عليهم العذاب صبًّا، وهذا ما ذكره الله -عز وجل- في كتابه حين قص قصة عاد أو أشار إليها في سورة الفجر.

  25. كذا علمتنا قصة هود -عليه السلام- أن لكل ظالم نهاية، وهذه النهاية نهاية أليمة؛ لأن عذاب الله -عز وجل- إذا وقع يكون مروِّعًا، يكون زاجرًا، يكون قاسيًا، هاهم قوم هود مع ما كانوا فيه من قوة وشدة ونعمة إلا أنهم حين استكبروا وظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم وخالقهم كان الجزاء أن أهلكهم الله بريح صرصر عاتية، جعلتهم كأعجاز نخل خاوية، وفي هذا كل العبرة لكل متكبّر جبار، ولكل من لا يؤمن بيوم الحساب

  26. عرض دعوة صالح عليه السلام • نبي الله صالح هو صالح بن عبيد بن ماسح بن عبيد بن حادر بن ثمود بن عافر بن إرم بن نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقال الحافظ البغوي: إنه صالح بن عبيد بن آسف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود، وعن وهب: أنه ابن عبيد بن جابر بن ثمود. • وبُعث سيدنا صالح -عليه السلام- في قوم ثمود، وهم كما يذكر ابن كثير قبيلة مشهورة، يقال لها ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديث، وهما ابنا عافر بن إرم بن سام بن نوح، كان عربًا عاربة يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك، وقد مر به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين، وقد روى البخاري بسنده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((لمّا مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم- إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي))، وهذا الحديث أخرج الإمام أحمد نحوه من رواية ابن عمر قال: ((لما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا القدور، فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عُذّبوا فقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم؛ فلا تدخلوا عليهم)).

  27. الإمام النووي يُعلّق على هذه الروايات في شرحه لـ(صحيح مسلم) ويقول: وفي هذا الحديث الحث على المراقبة عند المرور على ديار الظالمين ومواضع العذاب، ويقول: وينبغي للمارِّ في هذه المواضع المراقبة والخوف والبكاء والاعتبار بهم وبمصارعهم، وأن يستعيذ بالله من ذلك. • وقد ذُكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة فكانوا يبنون البيوت من المدر فتخرب قبل موت الواحد منهم، فنحتوا لهم بيوتًا في الجبال، وكانت ثمود تعبد الأصنام والأوثان من دون الله -عز وجل- فأرسل الله إليهم صالحًا يدعوهم إلى عبادة الله وحده وإلى نبذ عبادة الأصنام؛ فآمن به البعض وكفر جمهورهم، ونالوا منه -عليه الصلاة والسلام- بالمقال تارة وبالفعال تارة، وهموا بقتله، وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم؛ فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

  28. وكما هي العادة بدأ صالحٌ دعوته بنقطة الخلاف الأولى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 73) وهو بعد يُنذرهم عذاب الله العاجل والآجل، كما في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} (القمر: 23) والنذر: مفردُه النذير وهو يطلق على المنذر، وهو أيضًا اسم للإنذار، ويَعرض عليهم بعدئذ عرضًا مشوبًا باللوم؛ لأنهم لم يتقوا ما خوَّفهم منه {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 141-143) ثم ذكَّرهم بما أنزل الله -عز وجل- على عاد إذ أهلكهم بسبب كفرهم وطغيانهم، وذكرهم بأن الله قد جعلهم خلفاء لهم، ومكّن لهم في الأرض، يتخذون من سهولها قصورًا وينحتون الجبال بيوتًا، ويعظهم بأن يذكروا نعمة الله وأن يشكروها كما قال -جل من قائل-: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف: 74).

  29. وأخيرًا نبههم وحذّرهم من أن الله لن يتركهم في ديارهم آمنين وهم يشركون به ويكفرون برسوله وبما جاءهم به عن ربه، بل لا بد أن تنزل بهم عقوبة إن هم أصروا على ما هم عليه من الشرك والفساد والإفساد في الأرض، فقال كما قال تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 146-152).

  30. ثم إنه طلبوا منه المعجزة الخارقة، وكانت معجزة عجيبة: أن يُخرج لهم من صخرة صماء عيّنوها ناقة حددوا أوصافها، فما كان من صالح إلا أن دعا ربه فأخرج لهم آية الناقة التي طلبوها، وعندها حذرهم من أن يتعرضوا لها بسوء، فإذا فعلوا ذلك نزل بهم العذاب، وهذا قصّه الله -عز وجل- علينا بقوله {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الأعراف: من الآية: 73) قال كما في آية أخرى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيم} (الشعراء: 156، 157).

  31. لكن أكثرهم لم يؤمنوا، على الرغم من أن الله استجاب لهم في آية الناقة فما كان منهم إلا أن ضاقوا ذرعًا بوجودها بينهم على وَفق الشروط التي وضعها الله -عز وجل- وبلّغهم إياها صالح -عليه السلام- فاتفق كفارُهم على التخلص من الناقة ورضوا بأن يتولى أمر عقرها أشقاهم فعقرها؛ فأهلكهم الله {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} (الشمس: 11-15) وفي آية أخرى يقول تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف: 77-79).

  32. وإذا أردنا أن نتناول موقف قوم صالح من صالح وما وقع منهم من اعتراضات، بل ما وقع منهم من شتائم وتطير وما أتوا به من جدليات- فإن الوقت يطول، لكن علينا أن نستمع إلى ما سطره الله كتاب الله -عز وجل- حين قالوا له: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (هود: 62).

  33. هؤلاء القوم يعتبرون أن دعوة صالح لهم بترك عبادة الأوثان دليل على عدم رجاحة عقله، ولكنه رد على زعمهم هذا ورد على افترائهم هذا بلطف ولين، فبيّن منهجه في الدعوة إلى الله -عز وجل- وقالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} (الشعراء: من الآية: 153) يقول ابن كثير: أي من المسحورين؛ يعنون مسحورًا لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد الله -عز وجل- بالعبادة وحده، وخلع ما سواه من الأنداد. وهذا القول عليه الجمهور وهو أن المراد بالمسحَّرين المسحورين.

  34. ثم تعجبوا أن يكون صالح مرسل من ربه -تبارك وتعالى- وهو بشر مثلهم فقالوا له: {مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} (الشعراء: من الآية: 154) يعني: فكيف يُوحى إليك من دوننا، كما قالوا في آية أخرى: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} (القمر: 25)، توعَّدهم القرآن بقول الله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} (القمر: 26) ولذلك سألوا صالحًا أن يأتيهم بآية تدل على صدقه فقالوا: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 154) اقترحوا عليه أن يأتيهم بآية ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربه، وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أن يخرج لهم من هذه الصخرة ناقة عُشراء، أشاروا إلى صخرة عندهم صفتها كذا وكذا، عند ذلك أخذ عليهم نبيُّ الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه فأعطوه ذلك العهد، فقام نبي الله صالح صلى ثم دعا الله -تبارك وتعالى- أن يجيبهم إلى سؤالهم، فتمخّضت تلك الصخرة وانفطرت عن ناقة عُشراء على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم وكفر أكثرهم، ثم جاء الشرط: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (الشعراء: من الآية: 155) يعني ترِد ماءكم يومًا، ويومًا تردونه أنتم، {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}فماذا كان؟ كان أن كذبوا وكفروا وعتوا وطغوا، حتى إنهم قتلوا هذه الناقة.

  35. والعلماء اختلفوا في وجه كون هذه الناقة آية على وجوه: • فمن العلماء من قال: إنها كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة، فهذا إن صح فهو معجز من جهات: أحدها: خروجها من الجبل، والثانية: كونها لا من ذكر ولا أنثى، والثالثة: كمال خلقها من غير تدرُّج، فهي ناقة كبيرة حامل. • الوجه الثاني: أنها إنما كانت آية لأجل أن لها شِرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم، واستفاء ناقة شُرب أمة من الأمم هذا شأنٌ عجيب! يعني: ناقة تشرب في يوم ما تشربه أمة بأسرها، هذا شأن عجيب!

  36. والوجه الثالث: أن وجه الإعجاز فيها أنهم كانوا في يوم شُربها يحلبون منها القَدر الذي يقوم لهم مقام الماء في يوم شُربهم، وهذا شيء مُعجز أيضًا، فناقة تكفي أمة من الناس لبنًا، هذا شيء عجيب! وفي اليوم الذي لا ترِد فيه الماء لا تُحلب منها قطرة، وهذا شيء عجيب أيضًا! • ومن وجوه الإعجاز وهو الوجه الرابع: أن يوم مجيئها إلى الماء كان جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء، وفي يوم امتناعها كانت الحيوانات تأتي، والقرآن دل على أن هذه الناقة كانت معجزة، فأما ذكر أنها كانت معجزة من أي وجه من الوجوه فهذا غير مذكور والعلم حاصل بأنها كانت معجزة من كل وجه لا محالة، والله تعالى أعلى وأعلم

  37. معالم  من دعوة صالح -عليه السلام- • لقد رأينا أن إهلاك ثمود كان بأنواع مختلفة من العذاب: منها الرجفة ومنها الصيحة ومنها الصاعقة ومنها الطاغية، ونجى الله -عز وجل- صالحًا ومن آمن معه من العذاب الذي حاق بقومه المتكبرين المعاندين، فقال جل من قائل: {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (النمل: من الآية: 53). • فالمسلم يتذكر عِبَر الزمان الماضي؛ ليعتبر بما فيه من أحداث ويأخذ منها الدروس والعبر، ومن هنا فقد قال صالح لقومه حينما جاء يدعوهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} (الأعراف: من الآية: 74).

  38. ومن الدروس أيضًا أن الإنسان إذا كان في نعمة فليشكر الله -عز وجل- عليها، وشكره إنما يكون بالعمل الصالح بعد الإقرار لله -عز وجل- بالوحدانية؛ ذلك أن المعاصي تُزيل النعم والشكر هو قيدها كما قال جل من قائل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: من الآية: 7)، وقد قال بعض الشعراء: • إذا كنت في نعمة فارعها ، فإن المعاصي تزيل النعم

  39. وقد رأينا نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- يتحرز من المرور أو المكث في أماكن المعذَّبين أو الذين غضب الله عليهم، وقد رأينا نبينا الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهاهم عن الدخول إلى مساكن الذين ظلموا والذين عُذبوا، ويقول: ((إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم))، والله -عز وجل- ذكر ذلك المعنى في كتابه محذِّرًا فقال جل من قائل: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} (هود: 67، 68).

More Related