1 / 111

الدرس الرابع

الدرس الرابع. دعوة إسحاق -عليه السلام -.

Download Presentation

الدرس الرابع

An Image/Link below is provided (as is) to download presentation Download Policy: Content on the Website is provided to you AS IS for your information and personal use and may not be sold / licensed / shared on other websites without getting consent from its author. Content is provided to you AS IS for your information and personal use only. Download presentation by click this link. While downloading, if for some reason you are not able to download a presentation, the publisher may have deleted the file from their server. During download, if you can't get a presentation, the file might be deleted by the publisher.

E N D

Presentation Transcript


  1. الدرس الرابع

  2. دعوة إسحاق -عليه السلام- • مضى حديثنا -في المحاضرة السابقة- عن نبي الله إسماعيل -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وعرفنا أن إسماعيل عاش بمكة وفيها توفي، وأنه -صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم- كانت له مواقف كثيرة مع أبيه إبراهيم -عليه السلام- وقد قَصَّ القرآن الكريم علينا طرفًا من هذه المواقف، من أهمها: قصة ترك إبراهيم لابنه ولزوجه بذلك الوادي بغير زرع، ومن ذلك أيضًا: قصة بنائه للبيت مع أبيه إبراهيم، ودعائه بالقبول، ودعائه لذريته من بعده، وأيضًا: جرى معنا ذكر قصة الذبيح إسماعيل -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

  3. ثم إن التاريخ أفادنا أنه لم يكن من ذرية إسماعيل نبي إلا نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- انحصرت النبوة بعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في ذريته، كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} (العنكبوت: من الآية: 27). وقال -جل وعلا-: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِين} (الأنعام: 85، 86).

  4. النبوة انحصرت في ولد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وذكرنا أن الذي جاء من نسل إسماعيل هو نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- وحده، وجاء الشطر الثاني من ذرية إسحاق، إذ ولد له يعقوب، ويعقوب هو المسمى بـ"إسرائيل"، ومنذرية إسرائيل المسمى بـ"يعقوب" جاء أنبياء بني إسرائيل -عليهم السلام- وهم: يوسف، وأيوب، وذو الكفل،ويونس، وموسى، وهارون، وإلياس، واليسع، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى -عليهم وعلى نبينا صلوات الله تعالى وتسليماته.

  5. ومن أنبياء بني إسرائيل مَن أُرسل لغير الإسرائيليين: كيونس بن متى -عليه السلام- أرسل إلى أهل نينوى، وهم ليسوا من أبناء يعقوب؛ إلا أن أغلب الأنبياء بعد يوسف -عليه السلام- بعثوا إلى بني إسرائيل، ويبدو أن أنبياء بني إسرائيل كان يكمِّل بعضهم بعضًا، فليس أحدهم نسخ شريعة من سبقه، وإنما كان يأتي بجديد يتمم رسالة الله لقومه، يحيي ما نُسي، ويصحح ما حُرِّف، ويشرع لِمَا جد.

  6. اقتضت حكمة الله تعالى بتتابع الرسل في بني إسرائيل؛ لإيقاظهم من جهة، ولإبراز الدعوة الإلهية بينهم بصفائها وصدقها وأخلاقها من جهة أخرى. • قال الرازي في تفسيره: وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة. • القرآن الكريم لم يعرض مع أنبياء بني إسرائيل جوانب الدعوة جميعًا؛ وإنما أبرز مع كل نبيٍّ جانبًا معينًا يفيد المجتمع والناس، وقد درج المؤلفون والكاتبون في دعوات الله -وهم يكتبون عن أنبياء إسرائيل- أن يكتفوا بأهمهم كيوسف وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام- ولكن في هذه المقرر الدراسي نتناول كل أنبياء بني إسرائيل الذين ورد ذكرهم في كتاب الله تعالى؛ حتى ولو كان الحديث عنهم حديثًا يسيرًا غير مستفيض.

  7. وإذا أردنا أن نتحدث عن نبي الله إسحاق الذي جاء من ذريته يعقوب -عليه السلام- فإننا نقول: إن إبراهيم حين تزوج من ابنة عمه سارة واستقر ببيت المقدس بعد أن رحلا من بلديهما إلى حوران إلى مصر، وقد بلغ سن إبراهيم الخليل مائةً وعشرين عامًا وبلغت سارة التسعين، ولم تنجب لعقمها، وأيست من المحيض؛ فجأة جاءت الملائكة إبراهيم تبشره بولد تلده سارة، وعن هذه البشارة قال الله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} (هود: 71).

  8. كانت سارة تقوم بخدمة ضيوف زوجها وتسمع حديثهم من وراء ستر؛ فضحكت تعجبًا من هؤلاء الضيوف الذين لا يأكلون ولا يمدون أيديهم للطعام، و قيل: إنها ضحكت سرورًا بالبشرى التي حملتها الملائكة لها؛ لأنها علمت أنها ستنجب إسحاق وستعيش حتى ترى ولده يعقوب، وقيل: ضحكت بمعنى حاضت؛ ذلك أن من أسماء الحيض الضحك، وكونها حاضت هذا يدل على تهيئها واستعدادها للحمل الذي قدره الله -عز وجل- بينها وبين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.

  9. اصطفى الله تعالى نبيه إسحاق، وكلفه بالرسالة، واختاره ليسير على خطى أبيه إبراهيم -عليه السلام- كما قال -جل من قائل-: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات: 109- 113).

  10. هداه الله -عز وجل- إلى الحق المستقيم واختاره لنفسه وجعله إمامًا يدعو إلى الخير، ويهدي إلى دين الحق، ووفقه لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والعناية بجوانب العبادة الصحيحة التي تسعده في الدنيا وتذكره بالآخرة، وبالتالي نص الله -عز وجل- على أنه من الأخيار الذين اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- لقوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} (الأنعام: الآية: 87)، وقال سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 72، 73).

  11. يصف نبينا -صلى الله عليه وآله سلم- إسحاق فيقول: ((الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق))، وقد رزق إسحاق -عليه السلام- بولدين: هما يعقوب، وعيصو، ويعقوب هو المعروف بإسرائيل ومنه تناسل الإسرائيليون جميعًا؛ سواء كانوا أنبياء أم كانوا أفرادًا وشعبًا، إلا أنهم لما يستمروا في بلاد الشام؛ فقد ألفوا حياة البادية والتنقل إلى أن ولي يوسف -عليه السلام- أمر الخزائن والمال في مصر.

  12. جاء أخوته فعرفهم وقال لهم: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (يوسف: من الآية: 93)، وقال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (يوسف: من الآية: 99). • هكذا ترك الإسرائيليون الشام لأصحابها ونزلوا بمصر متمتعين بسلطان يوسف ومكانته، واستمروا على ذلك حتى هربوا منها مع موسى -عليه السلام- إلا أن إسحاق ظل مقيمًا طوال حياته في أرض الشام بقرية حبرون، وحبرون بالفتح ثم السكون: هي اسم قرية من قرى فلسطين، وهي التي دفن فيه إبراهيم وسارة وإسحاق ويعقوب ويوسف -عليهم جميعًا الصلاة والسلام- وهي مدينة الخليل الحالية.

  13. إسحاق ظل مقيمًا طوال حياته في أرض الشام بحبرون التي هي من أرض كنعان، ثم إنه لقي ربه عن عمرٍ يبلغ مائة وثمانين سنة -كما ذكر ذلك ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية)، وقيل: إنه دفن مع أبيه إبراهيم -عليه السلام- في المغارة التي دفن بها من قبل. • وبهذا نكون قد أتينا على قصة إسحاق -عليه السلام- لننتقل منها إلى قصة يعقوب -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وهي قصة تتداخل مع قصة يوسف ابنه الذي وقع له ما وقع وسطر ذلك القرآن الكريم وحيًا يتلى إلى يوم القيامة

  14. دعوة يعقوب -عليه السلام- • مضى معنا أن يعقوب هو بشرى الله -عز وجل- لإبراهيم حين جاءته الملائكة؛ فبشرته بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. • اشتهر يعقوب باسم إسرائيل، وإسرائيل في العربية معناها: عبد الله، وابن كثير -رحمه الله- يخبر أن يعقوب -عليه السلام- اختلف مع أخيه عيصو، وعيصو هذا هو الابن الثاني لإسحاق؛ فاشتكى يعقوب إلى أمه وأبيه فنصحاه بأن يذهب إلى خاله بحران ويبقى عندهم مدة ويتزوج بإحدى بناته.

  15. فلما قدم على خاله بحران وجد له ابنتين؛ فخطب الصغرى لجمالها، واشترط خاله أن يمهرها رعي الغنم سبع سنين؛ فلما أتمها أنكحه خاله الكبرى؛ لأن من عادتهم ألا تتزوج الصغرى قبل الكبرى، وقال له: إن أردت الصغرى؛ فاخدمني سبع سنوات أخر لتتزوجها أيضًا. -وكان الجمع بين الأختين سائغًا في ملتهم- فلما انتهت المدة الثانية تزوج الصغرى، ووهب خال يعقوب لكل من بنتيه جارية؛ فدخل يعقوب بالبنتين والجارتين، ورزقه الله منهن اثني عشرة ولدًا، منهم يوسف الذي عاش عمره في مصر بعد أن ألقاه أخوته في الجب، وقد عاد يعقوب بزوجته إلى ديار أبيه عند الكنعانيين.

  16. كلف الله يعقوب بالرسالة وبعثه قومه، وكان يوصي أبنائه بدين الله تعالى كما قال سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} (البقرة: 132). • يعقوب -عليه السلام- ذكره الله -عز وجل- في غيرما موضع؛ لكن أكثر ما ذكر في قصته ابنه يوسف -عليه السلام- حيث حكى الله -عز وجل- عن حلمه وصبره وتوكله على الله -تبارك وتعالى- وكيف قابل ما وقع من كيد أبنائه لابنه يوسف ولأخيه بنيامين؛ كما قال -جل من قائل-: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18).

  17. وهذا نوع تنويه بما كان عليه يعقوب -عليه السلام- من صفتي الحلم والصبر اللذين بلغا الغاية في هذه القصة -قصة يوسف- ومع هذا كان يتعامل معهم برفق وأناة، ويتعامل مع أخطائهم بمنهج النبوة؛ فهو يعلم ما في نفوسهم وما في طبائعهم من الغيرة؛ ولذا تراه يقول ليوسف حينما أخبره برؤياه التي ذكر له فيها أنه رأى الشمس والقمر مع الكواكب الأحد عشر كلهم يسجدون له، وهذا كان إيذانًا بشرفه وعلو كعبه، وبيان عظيم منزلته على سائر أخوته عندها قال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يوسف: 4).

  18. ولما جاءه بنوه بالقميص الذي لُوِّث بالدم المكذوب: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} (يوسف: من الآية: 18)، ولما غاب عنه ابنه الثاني قال: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُون} (يوسف: الآية: 87). • وسوف تأتي معنا قصة يوسف -عليه السلام- مع موقف نبي الله يعقوب، وما كان من حوار بينه وبين أبنائه، وما كان من وصايا لأبنائه حين حضرته وفاته؛ فإنه -صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم- حضهم على التمسك بعبادة الله تعالى وحده، كما قال -جل من قائل-: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} (البقرة: 133)، وعندها لقي ربه راضيًا مرضيًّا ومات بأرض مصر عند ابنه يوسف، ثم نقل جسده بعد ذلك ودفن مع إسحاق وإبراهيم -عليهم جميعًا السلام.

  19. وقد ذكر المؤرخون أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يومًا، وأمر يوسف من طيبه ثم ذهب به أهله في فلسطين، ودفنوه في المغارة الكائنة بحبرون مع أبيه وجده -عليهم الصلاة والسلام. • وبهذا نكون قد أتينا على المهم من قصة يعقوب -عليه السلام- لننتقل إلى قصة نبي الله يوسف.

  20. دعوة يوسف -عليه السلام-

  21. إننا مع الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ذلكم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه- فيوسف نبي وأبوه نبي وجده نبي، وأبو جده نبي أيضًا؛ فهو من سلسلة كريمة مكرمة. • وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سئل: من أكرم الناس؟ قال: ((أتقاهم لله))قالوا: ليس عن هذا نسألك! قال: ((فأكرم الناس: يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله))والحديث متفق عليه.

  22. وأي كريم أكرم ممن حاز -مع كونه ابن ثلاثة أنبياء متراسلين- شرف النبوة، وحسن الصورة، وعلم الرؤيا، ورئاسة الدنيا، وحياطة الرعايا في القحط والبلاء، كان يوسف -عليه السلام- وهو على خزائن الأرض لا يشبع، ويقول: "أخاف أن أشبع فأنسى الجياع". • وكان جود يوسف وكرمه جود فتوه، جود صبر على شهوات النفس، وصبر عن المعصية، وهو جود سادات الرجال، كان الضحاك -رحمه الله تعالى- يقول في قوله تعالى: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: من الآية: 36) قال: كان إحسان يوسف -عليه الصلاة والسلام-: أن كل من مرض في السجن قام عليه، وكل من احتاج وسع عليه". هذا هو يوسف.

  23. ويوسف كلمة عربية يرجع أصلها إلى الحزن والأسف، وهو اسمٌ يتناسب مع حياته التي أمتلأت بالمحن والفتن والمشاق، وجاءت قصته -عليه السلام- مفصلة في سورة باسمه هي سورة يوسف. • والقصة في هذه السورة تتحدث عنه، وعن مولده ونشأته، وحياته وأخلاقه، وموقفه من إخوته، وهكذا حتى تنتهي به عزيزًا أو وزيرًا في مصر وواليًا على خزائنها ومعه قومه إلى أن تحضره وفاته؛ فمات وهو ابن مائة وعشر سنين. • وقبل أن ندخل إلى قصة يوسف -عليه السلام- لا بد أن نشير إشارة إلى تلك الرؤيا التي رآها والتي ابتُدئت به قصته: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين} (يوسف: الآية: 4)، رأى يوسف -عليه السلام- وهو صغير قبل أن يحتلم كأن أحد عشرة كوكبًا -وهذه أشارة إلى بقية إخوته- كما رأى الشمس والقمر -وهما أشارة إلى أبويه- قد سجدوا له فهاله ذلك؛ فلما استيقظ قصها علي أبيه؛ فعرف أبوه أنه سينال هذه المنزلة العالية، وهذه الرفعة العظيمة في الدنيا والآخرة؛ بحيث يخضع له أبوه وإخوته فيها؛ فأمره بكتمانها وألا يقصها على إخوته؛ كي لا يحسدوه، ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر.

  24. وإذا أردنا أن ننتقل إلى التعريف بالمجتمع الذي عاش فيه يوسف؛ فإننا نقول: إنه لما تزوج يعقوب -عليه السلام- ببنتي خاله وجاريتيهما، ورزقه الله -عز وجل- عددًا من الأبناء، ومن هؤلاء يوسف، وكان من زوجته راحيل، التي وافتها منيتها بعد ولادة يوسف بمدة وجيزة، وتطورت الأحدث مع يوسف؛ فألقاه إخوته في الجب، إلى أن أخرجته إحدى القوافل التجارية من الجب، وباعته لعزيز مصر، وقضي حياته في مصر إلى لقي ربه، وكانت مصر في هذا الوقت تحت حكم الرعاة الذين عاصروا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب -عليهم السلام- والرعاة يسمون حاكمهم بالملك أو العزيز، وكان المصريون يسمون حاكمهم بالفرعون -كما هو معروف.

  25. والرعاة هم الهكسوس، وكانت مدة حكمهم في مصر أكثر من قرن ونصف، ومن حديث القرآن عنهم خلال ذكره قصة يوسف -عليه السلام- نلمح بعض خصائص ذلك المجتمع؛ فالمجتمع المصري في وقتها مجتمع غير موحد، لا يعرف الله على وجه الحقيقة؛ ولذلك لم يكن يوسف -عليه السلام- على دينهم، وهذا مفهومٌ من قوله لأصحابه في السجن: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} (يوسف: 37، 38).

  26. وهو مجتمع أيضًا لا يعرف شيئًا عن دين الله الذي نقل إليهم من جيرانهم، وبخاصة أن الحكام لما يكونوا من الفراعنة مدعي الإلوهية؛ ولذلك تركوا الديانة المصرية القديمة وبحثوا عن دين آخر؛ فأخذوا من جيرانهم بعد ما عندهم، وهو قدرٌ لا يفيد في دين الله تعالى. • وهذا يدرك من قوله تعالى حكاية عن النسوة: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: الآية: 31).

  27. فهن يعرفن الله ويعرفن الملائكة كما يظهر هذا من قول العزيز لامرأته: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (يوسف: من الآية: 29)؛ فهذا مجتمع يعرف الاستغفار والتوبة، وامرأة العزيز تقول: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (يوسف: من الآية: 52)، وهي تعرف أن الهادي هو الله، وأن كيد الخائن إلى خسارٍ وتبابٍ.

  28. ساعدت هذه اللمحات يوسف -عليه السلام- في نشر دعوة الله، وتميز المجتمع المصري بنظام سياسي متقدم، ففي الوقت الذي عاش جيرانهم في بداوة؛ نجدهم يعرفون نظام الملك وولاية العهد، والوزارات، والدواوين العديد؛ بل تولى يوسف -عليه السلام- بعد خروجه من السجن ولاية الأموال والأقوات، والخزائن، وما يتعلق بالأرزاق والمؤن، وكان يوزعها على المصريين وعلى أهل البقاع المجاورة، وقد وقع هذا لإخوة يوسف حين أتوا إلى مصر من أرض كنعان للحصول على القوت -كما قص القرآن الكريم.

  29. وقد تميز المجتمع المصري بالسبق العلمي وبالمدنية الراقية؛ حيث عني أهل هذا المجتمع بتعبير الرؤى، وقد وقع في سورة يوسف عددٌ من الرؤى وذُكرت لها تعبيرات، فيوسف -عليه السلام- يري وأصحابُه في السجن والملك كل هؤلاء كانت لهم رؤى وكانت لها إشارات، وقد تحققت إشاراتها واستُفيد عمليًّا بما دلت عليه. • ثم إن المجتمع كان له تلك المدنية؛ حيث كان للنسوة اجتماعات وكان لهن آراء, وكان لهن سلوك مدني متقدم في الطعام والشراب، كما هو مفهومٌ من لقاء النسوة بامرأة العزيز، وإعداد الموائد العامرة، وتقديم السكاكين ليأكلن بها.

  30. وعاش يوسف في هذا العصر؛ فاستفاد بإيجابياته، ونجاه الله تعالى وحفظه من سلبياته، ثم إنه ابتلي فصبر؛ فمكن الله له كما قال -جل من قائل- بعد خروجه من السجن: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف: من الآية: 54). • ولما جاء بنو إسرائيل إلى مصر تعاونوا مع الهكسوس، ولم يندمجوا في المجتمع المصري، وكانوا للرعاة عونًا على المصريين؛ ولذلك لما استرد الفراعنة زمام الأمور مرة أخرى في الأسرة الثامنة عشرة؛ أخذوا في مقاومة الإسرائيليين وديانتهم، وتمكنوا من طردهم من مصر في زمن موسى -عليه السلام... هذا هو المجتمع الذي عاش فيه يوسف -عليه السلام- حتى لقي ربه.

  31. ويوسف -عليه السلام- كما ذكرنا، هو الابن الثاني عشر لإخوته الأحد عشر،ويوسف -عليه السلام- كان من راحيل، وراحيل أنجبت وليدين: يوسف، وبنيامين، هذا هما الولدان الشقيقان اللذان رزق بهم يعقوب من راحيل، ترتيب يوسف بينهم الثاني عشر. • وقد تميز منذ صغره بسعة العقل وسلامة الخَلْق، وكان محل حب أبيه لنجابته وصغره، وكان أيضًا حسن الخلق، وكان أبوه يحبه لما وقع من فقده لأمه، ومما زاد من حب أبيه لابنه تلك الرؤيا التي رآها الغلام الحدث يوسف -عليه السلام- والتي قصها عليه أبيه، والتي ذكرنا خبرها قبل قليل.

  32. كما كان يوسف -عليه السلام- على الغاية من الجمال، يذكر السهيلي أنه كان على النصف من حسن آدم؛ لأن آدم بلغ نهاية الحسن، وجاء في بعض الروايات: أن أهل مصر أصابهم الجفاف في عصر يوسف؛ فكانوا ينسون جوعهم بالنظر إلى يوسف تلذذًا بجماله وحسنه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((رأيت يوسف ليلة أسري بي في السماء الرابعة، فقيل: كيف رأيته؟ فقال: كالقمر ليلة البدر)). • تميز يوسف -عليه السلام- بالرشد والفهم أيضًا كما قال -جل من قائل-: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 22).

  33. وعاش -عليه السلام- مع فتن ومحن حتى تحققت رؤياه، ومات بعدئذ بأرض مصر ودفن بها، ثم نقل جثمانه إلى فلسطين في زمن موسى -عليه السلام. • يدل على هذا ما رواه أحمد في مسنده: عن أبي موسى الأشعري: أن بعض الصحابة سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عجوز بني إسرائيل، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((إن موسى حين أراد أن يسير ببني إسرائيل ضل عنه الطريق؛ فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ قال له علماؤهم: إن يوسف -عليه السلام- حين حضره الموت؛ أخذ علينا موثقًا من الله إلا نخرج من أرض مصر حتى ننقل عظامه معنا. فقال موسى: أيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما علم أحد قبره ألا عجوز بني إسرائيل؛ فأرسلوا إليها وأتوا بها وسألوها عن قبر يوسف؛ فانطلقت بهم إلى بحيرة فيها ماء، فأمرتهم أن يجففوا ماءها؛ فلما جففوها حفروا بها واستخرجوا منها عظام يوسف؛ فلما أقلوه معهم من أرض مصر؛ إذ الطريق مثل ضوء النهار))وهذا في (مسند الإمام أحمد)، والحديث صححه الهيثمي وغيره.

  34. وننتقل إلى ما كان بين يوسف وإخوته؛ فقد قص القرآن الكريم أحاسيس إخوة يوسف حين قال: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 8)، لقد أنساهم الشيطان أن الحب القلبي عطاء إلهي لا يملكه الإنسان، وأن العدل العقلي والمادي هو الذي يملكه الإنسان وهو الذي يؤاخذ على تقصيره فيه. • ثم إنهم قالوا: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}أي: والحال أننا جماعة ذوو عدد، نقدر على النفع والضرر بخلاف الصغيرين -أي يوسف وبنيامين- ثم إنهم عقبوا على هذا بتخطئة أبيهم وبإخراجه عن الصواب حين قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (يوسف: من الآية: 8)؛ فكيف لهم أن يحتلوا هذه المكانة التي احتلها يوسف وأخوه؟!.

  35. جاء الاقتراح بقتل يوسف، ولم يكن مسلمًا لديه، لماذا؟ لأن القتل جريمة، وهم يأنفون من أن يباشروا بأنفسهم تلك الجريمة، والخلاص منها أمرٌ صعب، وفعلها لا يليق بهم؛ ولهذا كان الاقتراح الثاني هو الأقرب إلى القبول حين قالوا: {اطْرَحُوهُ أَرْضًا} (يوسف: من الآية: 9)، أي: ارموه في صحراء قاحلة؛ ليموت بعيدًا عنهم، إما بالجوع أو بالعطش أو بافتراس الوحوش الضارية له. • ثم إنهم وجدوا واحدًا توسط في الرأي، واقتراح رأيًا به يبعد يوسف عن أبيهم، وفي نفس الوقت يعيش هو وإخوته في سعة من أمرهم، ولا يفضى الاقتراح إلا قتل يوسف، أو إزهاق حياته؛ لذا قال تعالى -حكاية عن قائل هذا القول-: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} (يوسف: من الآية: 10).

  36. فما كان منهم إلا أن طلبوا من أبيهم أن يرسل يوسف معهم للرعي والعمل، وأن يخرج معهم؛ فلم يوافق على طلبهم لصغر سنه؛ فذكروا له أنه لن يعمل، وأنه سيخرج ليرتع ويعلب -كما قص ذلك القرآن- وليتنزه وليستأنس بأمثاله من الصغار؛ فبين لهم أنه لا يصبر على فراق الصغير، وبأن بعده يحزنه، وأيضًا هو يخاف عليه من الذئب لصغره والبرية ملأى بالذئاب. • ولما يكن يدُر بخلد نبي الله يعقوب أن يقع منهم ما وقع، ويبدو أنه أعطاهم الحجة والتكأة التي تحججوا بها ليقولوا أكله الذئب ونحن عنه غافلون، هكذا جرى الحوار بينهم وبين أبيهم: {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُون} (يوسف: من الآية: 12- 14).

  37. أخذوا يوسف معهم، ذهبوا به إلى بئر يرتاده السيارة من التجار للتزود بالماء، ثم عزموا على تنفيذ ما اتفقوا عليه؛ فألقوه في هذا الجب، ونزل جبريل -عليه السلام- فحمله ووضعه في جانب من البئر؛ بحيث لا يصل إليه الماء، وبشره بالفرج وعلو الشأن، وأنه سينجو، وأن الله سيجمعه بأبيه وإخوته بعدما أن يمكن له في الأرض، وفي هذا يقول تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (يوسف: من الآية: 15). • ماذا فعلوا؟ جاءوا إلى أبيهم بقميصه الذي خلعوه، ثم لطخوا القميص ببعض الدم، وجاءوا إليه ليقولوا له: إن الذئب قد أكله، وحاولوا إخفاء هذا الجرم بأن جاءوا متأخرين ليلًا على غير عادتهم، وبالبكاء الحار على فراق أخيهم، وبالقميص الذي لوث بالدم الكاذب.

  38. يعقوب لما يصدقهم في مقالتهم، لماذا؟ لأنه رأى من القرائن والأحوال ما يؤكد كذبهم، ومن القرائن رؤيا يوسف -عليه السلام- وهي رؤيا حق تؤكد أنه لا يموت هكذا، ثم إنهم أخذوا يوسف ليلعب؛ فكيف يذهبوا ليلعبوا ويتركونه، ثم إنهم زعموا أن الذئب أكله، والذئب لا يأكل ضحيته كلها؛ بل يأخذ أبعاضها ويكتفي بقطع منها، ثم إنه لو كان قد أكله؛ فلربما بقي من يوسف شيء يأتون به إلى أبيهم، ثم إن القميص كان سليمًا لم يكن ممزقًا ولم يكن مقطعًا، كان القميص سليمًا إلا أن عليه دم.

  39. وقال بعض العلماء: إن هذا الدم كانت فيه إشارة وأمارة إلى أنه ليس بدم بشري؛ وإنما هو دم كبش أو ضأنٍ أو نحو هذا، ثم إنهم كذبوا أنفسهم أمام أبيهم حين قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يوسف: من الآية: 17)، وعندها قال يعقوب -عليه السلام- بعد أن سلم أمره لله صابرًا محتسبًا متوكلًا على الله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: من الآية: 18).

  40. ننتقل إلى يوسف -عليه السلام- في الجب وقد جاءت قوافل التجار وأناخت بإبلها بجانب البئر، وأرسلوا ساقيهم لينزع لهم الماء؛ فلما أدلى الوارد دلوه تعلق يوسف بالحبل، وشده الوارد فلما رآه استبشر وقال: هذا غلام... • عرف التجار بالأمر فكتموا خبر العثور عليه، وجعلوه بعضًا من بضاعتهم التي أحضروها من بلاد الشام إلى مصر، ثم إنهم باعوا نبي الله يوسف بثمن رخيص، لماذا؟ لأنه لما يقف عليه بثمن أصلًا؛ فلم يتكلفوا فيه ثمنًا، ولم يهتموا بشأنه مخافة ظهور قومه وأن يسترجعوه منهم، ومن الذي اشتراه؟ اشتراه عزيز مصر الذي قام على تربيته وكان ما كان؛ حتى تول يوسف -عليه السلام- أمر الخزائن لتميزه بالحفظ والعقل وسعة النظر.

  41. ثم ننتقل إلى يوسف وهو في بيت عزيز مصر: أخذ التجار يوسف صغيرًا من الجب، ذهبوا به إلى مصر، باعوه بثمن زهيد، ثم إن الله -تبارك وتعالى- آوي يوسف في بيت العزيز، ولم يكن له ولد؛ فأخذ يوسف -عليه السلام- يعيش في هذا البيت، وقال العزيز لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} (يوسف: من الآية: 21)، فبدل الله -عز وجل- يوسف بالجب قصر الملك؛ ليتمتع به فيه بكرم المنزلة، وطيب الطعام، وحسن الملبس، والاطلاع على أمور الناس وأحوال المعاش؛ وليتعلم ما يعرفه أمثاله من أبناء الملوك والأمراء.

  42. كانت أمنية العزيز من تبني يوسف: أن يساعده في مهامه، أو أن يتخذه ولدًا يئول إليه الأمر من بعده، رحبت امرأة العزيز بهذا الصغير، وعنيت بتربيته وبتعليمه، وسرعان ما أحبه كل من عاشره من خدم القصر؛ لما كان يتمتع به من جمال الخلقة والخلق. • وقد تأثرت زوجة العزيز بيوسف وتعلق قلبها به، وشغفت بالحياة معه؛ فكانت تتزين أمامه وتبدي مفاتنها وتظهر محاسنها ليتلفت إليها؛ لكنه كان مستمسكًا بعفة وطهارة وخلق كريم...

  43. انتقلت امرأة العزيز من مرحلة التعريض إلى التصريح، ومن مرحلة الإخفاء إلى الإظهار والإبداء، وأعدت العدة لتنال من يوسف ما تريد وما تشتهي وما تبغي من الإثم والحرام، قال -جل من قائل-: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} (يوسف: من الآية: 23). • لم يتأثر يوسف بهذه المغريات؛ وإنما تذكر ربه فاستعاذ به من كل سوء وشر، وتذكر فضل العزيز الذي أكرم مثواه، فقال لها من فوره: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي} -يعني العزيز- {أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: من الآية: 23): أعوذ بالله معاذًا مما دعوتني إليه، وزوجك هو سيدي وربي الذي أكرمني ورباني؛ فكيف أخونه في أهله وأجبيك إلى ما تريدين؟! وفي الاستجابة لك ظلمٌ وعدوانٌ على حق الله وحق الناس، ولا يفلح الظالم بخيرٍ أبدا.

  44. وقع الأمر على امرأة العزيز وقع الصاعقة: كيف يفعل هذا وهو في بيتها، وهو شاب أعزب، يعيش تحت سيف العبودية، ويجد نفسه أمام أميرة شابة جميلة تتهيأ لها وتعد المكان، وتطلب منه أن يستجيب لطلبها، وهو بمأمن أن يناله أحدٌ بسوء، وها هي تكرر الطلب مرة بعد مرة؟! فما يكون من يوسف -عليه السلام- إلا أن يخرج من عندها مسرعًا، وهي تلاحقها تجري وراءه وتلحق به؛ فتقطع ثيابه من دبر؛ حين أدركته قريبًا من الباب.

  45. فلما استبقا الباب: أي تسابقا نحو باب القصر أو باب الغرفة؛ هو يهرب وهي تطلب، هو يخرج للهرب وهي تلاحقه للطلب، كما قال الله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} (يوسف: من الآية: 25) أي: شقت قميصه من خلف، لأنها كانت تلاحقه.

  46. {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (يوسف: من الآية: 25) أي: وجدا العزيز واقفًا عند باب القصر، وقد حضر في غير أوانه حضوره، وبمهارة فائقه أدارت الأمر بشكل عجيب وقلبت الأمر بشكل غريب؛ فأصبح الظالم مظلومًا والبريء متهمًا: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيم} (يوسف: من الآية: 25) أي: ما جزاؤه إلا أن يسجن أو يضرب ضرب مؤلمًا وجيعًا، لماذا؟ لأنه أراد أهلك بسوء؛ فقال يوسف -عليه السلام-: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} (يوسف: من الآية: 26) أي: قال يوسف مكذبًا لها يدفع عن نفسه هذه التهمة: هي التي دعتني مقارفة الفاحشة لا أنا الذي أراد بها السوء.

  47. ثم إن الله -عز وجل- قال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} (يوسف: من الآية: 26) ما هو هذا الشاهد؟ ومن هو هذا الشاهد؟ قال ابن عباس: كان طفلًا في المهد انطقه الله، وكان ابن خالها، وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة التي ألصقت به من غير حق ولا برهان. • قال الشاهد: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: الآية: 27) نظر الملك إلى القميص؛ فلما رآه قُدَّ من دبرٍ علم الحقيقة وتأكد من صدق يوسف ومن براءته؛ فقال ليوسف ولزوجته ما حكاه الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (يوسف: 28، 29).

  48. هكذا يجلِّي القرآن هذه الحقيقة: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}؛ فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق، وهو التلطف في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله فيما يشبه الثناء؛ فإنه لا يسوء المرأة أن يقال لها: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}؛ فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم. • والتفاتة إلى يوسف البريء: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (يوسف: من الآية: 29) أي: أهمله ولا تعره اهتمامًا ولا تتحدث به، وهذا هو المهم: المحافظة على الظواهر في تلك المجتمعات الخاوية، في تلك الجاهلية، قبل ألف السنين.

  49. ثم عظة إلى المرأة التي راودت الفتى عن نفسه، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (يوسف: من الآية: 29). • هذا حال هذه الطبقة الأرستقراطية من رجال الحاشية في كل جاهلية، وفي هذا إشارة إلى أن العزيز كان قليل الغيرة؛ حيث لما ينتقم ممن أرادت خيانته وتدنيس فراشه بالإثم والفجور، قال ابن كثير: كان زوجه لين العريكة سهلًا؛ أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه.

  50. وشاع هذا الخبر في المدينة، ومضت الأمور في طريقها؛ فهكذا تمضي الأمور في القصور؛ ولكن للقصور جدرانًا، وفيها خدم وحشم، وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورًا، وبخاصة في هذا الوسط الأرستقراطي الذي ليس نسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن، وإلا تدول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات؛ ولهذا حكي الله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِين} (يوسف: 30).

More Related